اكتشاف

 في إحدى الأمسيات، وبينما كنت أتصفّح الفيس بلا هدف محدّد، شدّ انتباهي إعلان عادي لا يختلف في شكله كثيرًا عن غيره من إعلانات السفر؛ غير أنّ شغفي بكل ما يمتّ إلى التاريخ بصلة، ولا سيما ما يتعلّق بالأندلس جعلني أتوقّف عنده قليلا. كان الإعلان يقول:

"اقضِ عطلة نهاية أسبوع في قصر تاريخي:  Palacio de la Casa de Medina Sidonia"

بدأت أتأمّل الصور واحدة تلو الأخرى. قصر قديم ما يزال قائمًا، بجدرانه العالية ونوافذه الكبيرة، يحمل ملامح زمنٍ مضى بكل حكاياته وأسراره. لطالما أحببت زيارة المدن القديمة، والقلاع، والأديرة، وكل ما بقي شاهدًا على أزمنة غابرة.

توقّفت عند وصف المكان وتاريخه المختصر ثم لفت انتباهي أمرٌ آخر لم أكن أتوقّعه: الثمن كان مناسبًا على نحوٍ يدعو للاستغراب. أغلقت الإعلان بعد ذلك، وعدت إلى تصفّحي المعتاد، لكن فكرة الإقامة في قصرٍ يحمل ذاكرة أندلسية، في مدينة ساحلية جميلة لم تفارقني.

بعد دقائق قليلة، عدت إلى الصفحة نفسها، وملأت استمارة الحجز ببساطة، كما يفعل أي شخص يبحث عن مجرد إقامة هادئة في مكان هادئ. ولم أكن أعلم آنذاك أن ذلك الإعلان لم يكن سوى أول خيط في حكاية أندلسية أعمق مما تخيّلت.


 
مدينة شلوقة الاسبانية   Sanlucar

 اللحظة التي دخلتُ فيها القصر، شعرتُ كأنني أخلع العالم عند العتبة. المدخل فسيح، تحمله جدران عالية وسقوف مرتفعة تُشعر الداخل إليه بضآلة حضوره أمام المكان والزمان. انتابني شعور بالهيبة قبل الدهشة. سقفٌ عالٍ تحمله عوارض خشبية منقوشة بزخارف أندلسية دقيقة، تتشابك فيها الأشكال الهندسية في نظام صارم وجميل. الجدران مكسوّة بالجبس المنحوت. الأرضية من بلاط ملوّن تتكرّر فيه النجوم والاشكال، وفي الزوايا أقواس حدوة الحصان تفتح الممرّات بانحناءة واثقة، كأنها أحصنة تدعو الزائر لامتطائها لتأخذه في جولةٍ عبر الزمن.

الأثاث فاخر دون ابتذال؛ مصنوع من خشب داكن مصقول، كراسٍ ذهبية عالية الظهر، وستائر مخملية ثقيلة تنسدل على نوافذ كبيرة، تحبس الضوء وكأنها علقت عمدًا لتحمي القصر وأهله من فضول الناظرين. في المكان تنتشر رائحة قوية للخشب العتيق والجلد ترغم الزائر أن يكون حاضرًا بكامل حواسه. الهواء في الداخل بدا أكثر كثافة كأنه مُشبَع بما تراكم من أنفاسٍ مكتومة وأسرارٍ مخفية. في النهار يبهجك القصر بجماله الأخاذ. أمّا في الليل، فيتراجع الزمن فيه قرونا فيتحوّل إلى كائنٍ حجري ضخم، يبعث في النفس المخاوف ويوقظ فيها الهواجس، ويتركك تحت رحمة ذاكرة مثقلة.

القصر تملكه عائلة نبيلة تنحدر من سلالة عريقة جمعت بين قادة الجيوش وأمراء البحر وحكّام الأندلس. في تاريخ هذه العائلة ظلالٌ داكنة؛ كانوا من المسلمين الذين أُجبروا على إخفاء إسلامهم بعد سقوط الأندلس، وذاقوا قسوة التنصير القسري كما ذاق احفادهم لاحقًا القمع والسجن في زمن فرانكو ثمنا لأفكارهم. ربما لهذا تبدو جدران هذا القصر ضخمة أكثر من اللازم، كأنها ما تزال تحتفظ بألام وأحزان من سكنوا بها، وتهمس به للزائرين.

 في ليلتي الأولى في القصر، قررت أن أتجوّل في أرجائه وأروقته الساحرة. وبينما أنا أتجوّل في الطابق العلوي حيث الغرفة التي استأجرتها، لاحظت أن الجميع اختفى من حولي، الخدم والنزلاء. حتى الكهرباء انقطعت، وبدلا عنها كانت هناك شموع تضيء الاروقة. جاريت القصر في لعبته الزمنية، فأخذت فانوسا صغيرا كان معلقا على أحد الجدران، ونزلت الى الطابق الارضي أنظر أين اختفى الجميع.

مشيت ببطء بين الاروقة، وكلما مررت بجدار لمسته بحذر، كأنني أخشى أن أوقظه من سباته العميق. لم ألتق بأحد خلال جولتي القصيرة، وكأن القصر أصبح مهجورا فجأة. وبينما أنا أنتقل في أحد الأروقة المؤدية الى المطعم لعلني أجد النادلة الأنيقة التي استقبلتني في الغداء بابتسامة ساحرة، وصلت إلى جدارٍ مغطّى بورق سميك، نسيجٍ ثقيلٍ فقد لونه. كانت عليه زخارف جميلة بلون أخضر باهت. كانت تنبعث منه رائحةٌ قويةٌ جعلتني أتوقف عنده، كأنها خدّرت كل حواسي وسلبتني إرادتي. مررت كفي على الجدار أتلمسه، فشعرت أنني أمررها على فراغ. ضغطتُ بقوة، فتمزّق الورق. لمست أصابعي شيئًا صلبا تحرّك قليلًا إلى الداخل. دفعته أكثر. فجأة، تحرّك الحائط كلّه. حينها سمعتُ صوتًا مهيبا أفزعني، كصوت حجر ينزلق على حجر. ثم انشقّ الجدار عند خطٍّ لم أره من قبل، وانفتح باب خرج منه هواءٌ باردٌ، رطب، يحمل رائحة الورق العتيق.

تردّدتُ… نظرت حولي علني أجد أحدا، ثم ناديت بصوت مرتفع:

Hola !

لم يرد علي أحد، فاتبعتُ حدسي و اقتربت اكثر من الباب المفتوح امامي.

أبصرت درجات غير منتظمة تؤدي الى الأسفل. مع كل خطوة انزلها، كان القصر الذي أعرفه يبتعد، وأتقدّم نحو شيءٍ آخر مختلف. في الأسفل، بدأت تتكشف أمامي رويدًا رويدًا غرفةٌ صغيرة مظلمة، جدرانها حجرية، يغمرها العفن. دخلت اليها فإذا هي مليئة بكتب، ومخطوطات، وأوراق مربوطة بخيوط بالية، وخرائط بلا عناوين مكدّسة ومبعثرة.

وقفتُ طويلًا أحدّق في الكتب من حولي، أحاول أن أتأكد هل أنا في حلم أم في واقع؟

 ثم وضعتُ الفانوس بحذر، وبدأت أتلمس الكتب. فجأة وكأن أحدا دفع يدي دفعة واحدة فإذا بي أمسك كتابا ضخما أو ربما هو من أمسكني. فتحته على الصفحة الأولى، وبخطٍّ بالكاد استطعت قراءته، كان مكتوب عليها ما يلي:

 » اسمي عبد الله الإدريسي، رجلٌ من سبتة. أبحرت مع رجل يدعى ياسين الصنهاجي يوم الاثنين، 10 ربيع الآخر سنة 389 هـجرية، إلى أرض لا أعرف لها اسمًا… «

توقّفتُ. لم أستطع أن أُكمل.

سرت في جسدي قشعريرةٌ، وتبعها دوارٌ مفاجئ، كأن الأرض مالت تحت قدميّ. أحسستُ برطوبةٍ في يدي. نظرتُ إليها، فإذا هي مبلّلة، مليئة بالحبر. لم يكن حبرًا جافًا كما ينبغي أن يكون بعد قرون، بل لزجًا، داكنًا. احسست بملوحة في فمي، ورائحة قوية اعرفها جيدا فانا ابنة مدينة ساحلية. للحظةٍ، خُيّل إليّ أنني لم أعد في القصر، بل على سطحٍ يتمايل.

أغلقتُ الكتاب بسرعة، ومسحتُ يدي بطرف ثوبي حتى لا ألطخ الكتاب. بالكاد استطعت حمله من شدة الخوف الذي تملكني وصعدتُ الدرجات. أعدتُ الحائط إلى حالته الأولى. غير أن الثقب الذي أحدثته فيه كان باديا بوضوح. أسرعت الى غرفتي حيث استلقيت فوق السرير ودفنت نفسي تحت الافرشة وأنا أرتعش. 


ربيع سنة تسعٍ وتسعين وتسعمائة للميلاد (999م)

مرسى سبتة

لستُ قائدًا، ولا صاحبَ قرار، ولا واحدًا من أولئك الذين تُذكر أسماؤهم في الكتب. كنتُ رحالة وكاتبا مغمورا من سبتة، أدوّن الأحداث دون أن أنغمس فيها. إلى أن دعيت إلى رحلة عجيبة، فتغيّر كلّ شيء. أصبحتُ الكاتب الغارق فيما يكتبه، بكل جسده وحواسه، حرفيًا لا مجازًا. حين طلب منّي ياسين أن أكون مؤرّخ الرحلة البحرية التي جمع لها رجالًا أشدّاء امازيغ وعرب واندلسيين، سألته عن الوجهة، فأجابني بهدوءٍ لا يخلو من اعتزاز:

إلى أرضٍ جديدة في أرض الله الواسعة.

في صباح يوم الانطلاق من أيام شهر أبريل المعتدلة، كان المرسى شبه خالٍ إلا من رفقاء هذه الرحلة. لا رايات، ولا طبول، ولا مراسيم وداع. ثلاث سفن متوسطة الحجم، خشبها داكن من فرط ما شرب من مياه البحر المالحة، وأشرعتها مطويّة. كان ياسين واقفًا عند المقدّمة. تقدمت إلى السفينة وأنا أترك خلفي أكثر ممّا أحمل معي. لم يكن في الأمر طلب مجد، ولا وعد بغنيمة ثمينة. بعضنا جاء بدافع طلب الرزق اليسير، بعضنا هرب من شيء لا يريد أن يسمّيه، أمّا أنا فجئت لأنّ البحر كان أوسع من حياتي، ولأنّ البرّ ضاق بأسئلتي.

عندما تحرّكت السفن، لم نلتفت إلى الخلف. كانت الريح معنا، هادئة ولطيفة. تمتم أحدنا بدعاء السفر، وشدّ آخرون الحبال... أمّا أنا فكنتُ أحدّق في البحر تارة وانظر الى حبري تارة أخرى، أحاول أن أُقنع نفسي أن هذه الرحلة لن تكتب نهايتي، بل سأكتب فيها قصة رحلة عظيمة لا أسم لها بعد.

قال ياسين بصوتٍ واثق وكأنه قرأ ما بداخلي:

إنّ البحر لا يستسلم لمن يتحدّاه، بل لمن يستسلم له.

***

 


لا أعرف متى غفوت، لكنني استفقتُ في منتصف الليل أحس بإنهاك شديد. كان ضوء الفانوس خافتًا. عند طرف السرير، وقفت امرأة طويلة ونحيلة وشاحبة الملامح تحدّق بي في صمت. لم أصرخ. لم أتحرّك. كان وجهها مألوفًا، لكن لباسها مختلفًا. كانت ترتدي ثوبًا أحمر طويلًا، شال أسود يغطي شعرها، مطرّز بألوان زاهية، تشبه إلى حدٍّ كبير غطاء الرأس الإشبيلي الذي اشتريته في إحدى زياراتي إلى مدريد، la sevillana.

سألتني بصوتٍ إسباني فصيح وهادئ:

— ¿Te gustó el viaje؟

هل أعجبتك الرحلة؟

فركتُ عيني للتأكد انني لا أحلم.

كانت قد اختفت.

الكتاب الذي كان على صدري بدأ ينزلق ببطء، كأن قوة خفية تسحبه بعيدًا. مددت يدي لأمسكه، لكنني لم أمسك سوى الهواء.

نهضتُ فورًا. تركتُ سريري ونزلتُ إلى الطابق الأرضي، أبحث عن الباب السري، عن الفجوة في الجدار. تفحّصتُ الحائط جيدا. لم أجد شيئًا. لا شقّ، ولا باب. فجأة ظهرأمامي أحد الخدم، فانتبهت أن بهو القصر أصبح مضاءا وفيه بعض النزلاء. حمدت الله انني كنت ما زلت البس ثياب الخروج وليس النوم. ابتسمت له، ثم عدت الى غرفتي وراسي يكاد ينفجر من كثرة الاسئلة.

ثم، فجأة، تذكّرت.

تذكّرت عبد الله.

وتذكّرت ياسين، وقولته عن الاستسلام. لكن هذه المرّة لم تكن عن البحر، بل عن الذاكرة:

إنّ الذاكرة لا تستسلم لمن يتحدّاها، بل لمن يستسلم لها.

تنفست قليلا لاسترجع هدوئي. وفجأة تذكّرت الرحلة، كأنني لم أقرأها بل عشتها، وكأنني كنت فاقدة الذاكرة ثم استعدتها أخيرا.

نهضتُ كالذي مسّه الجن. اندفعتُ نحو الحاسوب، جلست وبدأت أكتب. بلا ترتيب، بلا مراجعة. كل ما أتذكّره. كل ما قرأته… أو رأيته. لم أتحرّك من مكاني حتى دوّنت كل شيء.

وعندما انتهيت، لم أعد متأكدة:

هل كنتُ قارئة؟ أم كاتبة؟ أم تراني شاهدة عيان ؟

بدأت أصعد وأنزل بين الصفحات المكتوبة.

هل حقًا كتبتُ رسائل بين عبد الله وصديقه المسلم من الهنود الحمر؟

ثم توقّفت عند صفحة أخرى:

هل أنا من كتبتُ أن ياسين، استُقبل بترحاب من قائد إحدى القبائل عند وصوله إلى احدى شواطئ ما يُعرف اليوم بالبرازيل؟

في تلك الصفحات، لم يكن كولومبس موجودا. كان لا يزال حبيس الغيب. وكانت الأرض الجديدة آهلة بشعوب عريقة وحضارات ضاربة في عمق الزمن: المايا، الأزتك، الإنكا، ومئات القبائل التي عرفت الأرض، وسمّتها، ودفنت موتاها في ترابها، ونسجت أساطيرها قبل أن يولد هو بقرون.

كولومبس، الذي سيأتي بعد ذلك بأربعة قرون، لم يكتشف أمريكا؛ بل وصل إليها مصادفة، وهو يبحث عن طريقٍ تجاريٍّ للهند. وصل، إلى هناك ثم سمّى ما رآه "اكتشافًا"، ليمنح القتل والسرقة والاستعباد اسمًا نبيلًا. جاء ببطولة مصطنعة، وكذبة ستُكرَّس في الكتب. كذبة فتحت باب عصرٍ من الظلمات، سُفكت فيه الدماء باسم الاكتشاف، واستُعبدت الشعوب باسم الاستعمار، وأُعيد تشكيل التاريخ والجغرافيا ليخدما الناهبين وقطاع الطرق.

أغلقتُ الحاسوب. لم أعد أعرف إن كنتُ أنا من كتب هذه الصفحات، أم أنها هي التي كتبت قصتي من جديد.

كان الوقت فجرًا. توضّأتُ، ثم صلّيت صلاةً أخرجتني من لعبة القصر وأبعاده الزمنية.

كنتُ منهكة. عدتُ إلى النوم، وكلّي أملٌ أن يفتح لي القصر مرة أخرى بابه السري، لأكتشف مزيدًا من أسراره؛ لعلّها تسدّ الفراغات بين القصص التي حُشيت بها رؤوسنا.

ثم استسلمتُ للنوم.

... 

ملاحظة: الصور المعروضة  تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي .

ر.خ

سلم الهرم

قبل سنوات، حين أحكمت جائحة كورونا قبضتها على العالم وأغلقت أبواب البيوت، ومنعت الناس من الاجتماع والسفر، راحت الأرواح تبحث عن نوافذ تتسلّل منها إلى شيء يشبه بعضا من الحياة الاجتماعية التي اعتادوا عليها. كانت الشوارع خاوية إلا من عابرين يختبئون خلف أقنعتهم، فيما كان الإنترنت يعجّ بأرواحٍ تهرب من ضيق الغرف إلى اتساع الفضاء الافتراضي. وفي ذلك الفضاء انضممت إلى منتدى التوستماسترز؛ مجتمع صغير جمعته رغبة مشتركة في التعلّم والتطوّر والتعارف بين الثقافات. كان أفراده يلتقون حول فنّ الخطابة باللغة الإنجليزية، علّها تزيح شيئًا من الملل، وتعوّض الفتور في التواصل، وتصقل مهارات أصابها الجمود.

بدأت أكتب الخطابات بالإنجليزية وأتمرّن على إلقائها، فوجدت أنّ كل محاولة للخطابة أمام الآخرين تحوّلت إلى غربلة داخلية لأفكاري. فكلما اخترتُ موضوعًا وغصتُ في البحث، اكتشفتُ أمورًا جديدة لم أكن أعلمها، وبدأت تتكوّن في داخلي رؤى أكثر عمقًا ودقة. ما كان منها متينًا برز واتضح، وما كان هشًّا تهاوى… تمامًا كما تهاوت آنذاك أوهامُ القوة لدى البشرية جمعاء.

وحين طُلب مني في إحدى المرات إعداد عرضٍ يقوم على البحث والتحليل، قررتُ أن أتناول سؤالًا قديمًا ظلّ يرافقني لسنوات:

هل يمكن حقًا اختزال حاجات الإنسان في هرم؟

ذلك الهرم المنسوب إلى "ماسلو"، الذي يفترض أن الإنسان لا يبلغ قمّته إلا بعد أن تُشبَع حاجاته البدائية. غير أن في جعبتي كانت هناك رواياتٍ كثيرة ـ من التاريخ ومن الواقع ـ تشهد بأن البشر يضحّون أحيانا بالأمان من أجل الكرامة، ويقدّمون الحرية على الخبز، ويلاحقون معنًى أسمى حتى وإن لم تُستكمل ضروريات الحياة. فكيف يمكن إذًا للروح البشرية أن تُحصر داخل طبقاتٍ مغلقة وحتمية؟ 

هذا التناقض دفعني إلى فتح كتاب ماسلو "الدافعية والشخصية" وهو الذي يشرح فيه بالتفصيل نظريته حول الحاجات. أخذتُ أتصفّح صفحاته كما لو كنتُ مكتشِفةً تنقّب في مخطوطةٍ فرعونية، بحثًا عن مفتاحٍ للهرم، أو شِفرةٍ تفكّ ألغازَه. لكنني خرجتُ بما هو أكثر من ذلك؛ خرجتُ بقصةٍ جديدة لم أكن أتوقعها.

اكتشفتُ أولًا أن ماسلو لم يذكر الهرم قط في كتابه. لم يرسمه، ولم يلمّح حتى إلى ضرورة تمثيل الحاجات في شكل مثلّثٍ متدرّج. بل كان يرى أن الحاجات قد تُشبَع جزئيًا، وأن الإنسان قد يقفز إلى مستوى أعلى قبل أن يستوفي ما دونه، وأن النفس قادرة على الارتقاء حتى حين يظلّ شيء من الأرض يشدّها. أو هذا على الأقل ما فهمته من بعض الصفحات التي قرأتها عن نظريته. ثم إن ماسلو نفسه، في مرحلة لاحقة، أضاف مستوى جديدًا لم يرد في النسخة الأولى من كتابه وهو: "تجاوز الذات"، تلك اللحظة التي يتحوّل فيها الإنسان إلى جزء من معنى أوسع، من فكرة تتخطى حدود جسده ورغباته.

وكلما تعمّقتُ في البحث، ازداد يقيني بأن ذلك الهرم الذي نحفظه جميعًا لا ينتمي إلى ماسلو إلا بالاسم. إلى أن وصلت إلى ورقة بحثية نُشرت في مارس 2019 في Academy of Management Journal، حيث قام Todd Bridgman وStephen Cummings وJohn Ballard، ثلاثة علماء نفس أمريكيين، بتتبع الأصول الحقيقية للهرم، وحملت كعنوان سؤالًا بدا لي كأنه يكمّل رحلة البحث التي بدأتها: من بنى هرم ماسلو؟

"Who Built Maslow’s Pyramid?"

وفيها كشف هؤلاء الباحثين أن الهرم كما نعرفه اليوم لم يُبنَ بيد ماسلو، بل بيدٍ أخرى لا نكاد نسمع بها: يد عالم نفس استشاري يُدعى "تشارلز ماكدرمد"، قدّمه لأول مرة سنة 1960 في مقال عن كيفية تحفيز الموظفين من أجل الزيادة في الإنتاجية. لم يكن ذلك التمثيل إلا قراءة جديدة لفكرة ماسلو الأصلية. صورةٌ هندسية بسيطة حلّت مكان رؤية إنسانية واسعة. وحسب قولهم، يبدو أن ماسلو نفسه كان منزعجًا من تحويل نظريته إلى أداة لزيادة الإنتاجية، إذ كان يرى أن هدفه لم يكن أبدًا ماليًا، بل إنسانيًا: البحث عن الحرية، التعبير، النموّ، والانعتاق حسب وجهة نظره.

لكن الأهم من هذا كله أن الباحثين اقترحوا شيئًا بدا لي أكثر انسجامًا مع نظرية ماسلو: اقترحوا أن السُّلَّم هو الشكل المناسب لتمثيل الحاجات حسب نظرية ماسلو، لا الهرم.

السُّلَّم
الذي لا يضعك في طبقة مغلقة، بل يمنحك حرية الحركة.

الذي يسمح لك بالتقدم لكن من الممكن جدا أن تتراجع وتسقط.

الذي يسمح لك بأن تقفز درجة أو درجتين أو أكثر للوصول الى الأعلى ان كنت تتمتع بالقوة الكافية.

ففي الحقيقة، إن حياة الانسان رحلة صعود وهبوط مستمرة.

فالإنسان لا يرتقي عبر نظام جامد، بل يرتقي عبر:

العقائد والقيم التي تدفعه بقوة تجعله يتمرد على الحاجات البدائية،

والحرمان الذي يقويه فيدفعه الى الأمام تارة ويضعفه أخرى فيرجع القهقرى،

والحلم الذي يدفعه بعيدا مهما كانت درجته على السُّلَّم متدنية.

وخلاصة القول من تجربتي مع هرم ماسلو، أننا اليوم نعيش في عالم تكثر فيه “الأهرام” الفكرية الجاهزة: مخططات، جداول، رسوم توضيحية، نظريات مبسّطة حدّ التشويه. وسهولة تداولها قد تجعلها تبدو حقائق نهائية، لا تحتمل السؤال. لهذا أقول لنفسي أولا وللآخرين: لا تُصدّق كل ما يُرسَم لك بالألوان الزاهية، ولا كل ما يُعاد تكراره في الكتب والمقررات والدورات التدريبية.

ارجع إلى النصوص الأصلية كلما استطعت، واقرأ عن أصحاب الفكرة بعد أن تقرأ من يختزلهم في بيانات أو صور. فبين الفكرة كما طرحت، والفكرة كما شاعت، مسافة شاسعة 

ملاحظة: الصور المعروضة  تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي 

ر.خ

 

ناي ومقلاع

قرية "الكِيفَانْ"، جبال " بَنِي جرْفَطْ "، شمال المغرب، 1516م

جلس عبدُ الله، الراعي الفَتِيُّ ذو الخمسة عشر عاماً، على ربوةٍ صخرية يراقب أغنامه وهي تنتشر بين شجيرات البلوط والإكليل الجبلي. كان يحمل ملامح أندلسية ورثها عن أمّه فاطمة التي نزحت من إشبيلية قبيل سقوط غرناطة عام 1496م: بشرة بيضاء تميل الى الحمرة عند الخدين، شعر داكن أملس ينزل على الجبين، وعينان سوداوان حادتان. قُرى "بني جرفط" نفسها تشبه الأندلس في سحرها: مراعي واسعة، وهواء ندي، وجبال شامخة، ووديان هادرة. في هذه الربوع، وجد فيها بعض من المسلمين النازحين من الاندلس ملاذهم الامن.


ارتدى عبد الله "القشّابة" الصوفية، ووضع على رأسه "الشاشية" المصنوعة من ليف الدوم، وبجواره "القِراب" الجلدي وفيه شيء من الخبز والماء. رفع نايه إلى شفتيه، فانساب منه لحنٌ حزين يشبه ترانيم الإشبيليات أيام التنصير القسري والتهجير. كانت الكلمات القديمة تتردّد في ذهنه:

" تِيكْ شْبِيلَة

تِيكْ وْلِيوْلَة

مَا قْتْلُونِي

مَا حْيَاوْنِي

غِيرِ الْكَاسْ اللِّي سْقَاوْنِي "

قبل طلوع الشمس، يخرج الفتى للمرعى، ويعود قبيل الغروب الى المنزل مع أغنامه. ثم يقصد الكُتَّاب المجاور للمسجد حيث يتلو القرآن مع الفقيه " مُحَمَّد العَرْبِي " وبعض من شباب القرية بعد صلاة العشاء.

توقف عن العزف فجأة وبدأ يفكر فيما دار الأمس في المسجد بين والده عبد السلام وفقيه القرية "محمد العربي" وبعض أعيانها.  تذكّر الاسم الذي تكرر كثيرا: " بِيرو مِينِيزْش ". ذلك الخائن الذي تنصّر ثم صارعوناً للبرتغاليين المحتلّين لمدينة أصيلة الساحلية. قال أحد الحاضرين أن البرتغاليين يستعدّون، لحملةٍ جديدة بقيادة القائد البرتغالي " مانويل دي أوليفيرا "، الذي اشتهر بقسوته.

"بيرو" من أبناء القبيلة، كان معروفاً بطبعه العنيف وحبه للمال والسلطة. هذا الخائن طلب منهم إتاوة، كما فعل مع بعض القرى الأخرى مثل "لهرة" و"الصخرة" وغيرها. تلك القرى التي قاومت البرتغال بكل قوة، لكن هذا الخائن كان سبباً في نشر الفوضى وإشاعة الفساد .

أحد الأعيان نصح بدفعها تفادياً لسفك الدماء، غير أن آخرين كانوا يصرون على المواجهة، خصوصاً بعدما بلغهم أن القوم لا يكتفون بهذا، بل يأخذون النساء أحياناً والأطفال عبيداً إلى حصونهم للسخرة.

بينما هو شارد الذهن، سمع صوت أخيه يحيى ذو العشر سنوات، يناديه من بعيد وهو يركض نحوه، ويصيح بأعلى صوته: «عبد الله، والدُنا يأمرك أن تجمع القطيع وتعود حالا!"

امتثل للأوامر فورا، فهو يعلم ان اباه لا يمكن ان يطلب منه شيئا مماثلا الا إذا كان هناك خطب. وعند وصوله رأى أمّه وأخواته مارية ونادية وصافية، يحملن المتاع على ظهور البغال. قال والده بصوت حازم:

"خذ أمك وإخوتك إلى قرية " بُوهانِيِ "، وابقوا هناك مع خالك. أمامنا أيام ثقال ونحتاج إلى الاستعداد لها".  لم يستطع مناقشته؛ فعندما يقرر والده أمراً لا مجال للنقاش.

قاد عبدُ الله القافلة الصغيرة، ومعه مجموعات اخرى من النساء والأطفال النازحين. وصلوا قبل العصر، فاستقبلهم خاله بكل ترحاب.

بعد أخذ قسط من الراحة، اقترب عبد الله من أمّه قائلاً:

"أمي... أستأذنك للعودة."

ارتجف صوتها من شدّة الخوف:

ـ "لا يا عبد الله! لقد عشتُ ما يكفي من الفقدً والألم. أنت أكبر اخوتك ونحن نحتاج اليك هنا."

قال عبد الله بحزم:

ـ "أمي… أتذكرين حياتك في الاندلس؟ لقد رأيتِ بأم عينيك الإسبان يقتلون الناس ويُهَجِّرُونهُمْ بغير رحمة، وعند النزوح، رأيتِ الجوع والعطش والأمواج وهي تبتلع الأحبّة واحداً تلو الاخرً "

انكمش وجهها، ثم قالت بصوتٍ حزين:

ـ "وكيف أنساها؟ صرخات أمي وأخوتي… السفينة المتهالكة… ومن بقي؟ لا أحد. كلّهم ذهبوا إلا خالك عبد الرحمان وبعض من ابنائه."

أمسك عبدُ الله بيديها وقال بنبرةٍ حنونة:

"في هذه الأرض وجدتم رجالاً طيبين، ومنهم جدّي رحمه الله. فتحوا لكم البيوت، اووكم وأطعموكم. فأصبحتم منهم."

" إنّ الناس الذين رموكم في البحر بالأمس لا يختلفون عمن يطاردوننا اليوم: بالأمس الإسبان، واليوم البرتغال، وغداً سيأتي غيرهم. إن لم نقاوم الان، سنظل نهرب من أرض إلى أرض ومن خوف إلى خوف … حتى لا يبقى لنا مكان."

كأنّ كلماته اخترقت قلبها. ارتعشت شفتاها، ثم وضعت يدها على رأسه وقالت وهي تبكي: "اذهب يا بني. والله ما أردتُ لك القتال، لكنني أيضاً لا أريد أن تعيش ذليلاً أو مشرداً. اذهب… في رعاية الله وحفظه…."

كانت أمه وخاله عبد الرحمان وابناؤه، الناجون الوحيدون من عائلة " مَرْصُو"، عند النزوح من الاندلس قبل سنوات. تأثر خاله بكلماته، فأمر أولاده الاشداء بمرافقته، وجهّزهم بأسلحة بسيطة؛ لكن عزيمتهم كانت أكبر من عدّتهم.

وصل الشبان مشارف القرية قبيل المغرب. أشار عبد الله إليهم، أن يختبئوا خلف الأشجار الكثيفة بعد أن التقطت أذناه حركة مريبة. بينما تقدّم هو ليتفقد المكان. وفجأة سمع صوتًا يعرف صاحبه؛ قال في نفسه " عَبّاس قْراع الراس ". كان يتحدث مع رجل ضخم الجثة، حادّ الملامح، يرتدي لباسًا عسكريًا ويناديه باسم " بِيرو ". سمعه يقول له إنّ أهل القرية جمعوا ستين رجلًا لمواجهتهم وسيلتحق بهم آخرون من القرى المجاورة.

فهم عبد الله أنه جاسوس يتعاون مع الخائن. خطرت له فكرة خاطفة؛ تناول مقلاعه الذي يصطاد به أحياناً ويحمله مثل نايه، وأطلق منه حجراً أصاب به عين "بيرو" اليمنى فراح يصرخ ألماً ثم امتطى فرسه وفر هاربا.  أما الجاسوس فقد تسمر في مكانه من هول الصدمة، فصاح عبد الله بالشبان، فانقضّوا عليه وحملوه الى القرية لينظروا في أمره.

وهكذا بدأت الشرارة الأولى لمقاومةٍ لم يكن الراعي الفتى، الذي طالما حلم بالالتحاق بجامعة القرويين بفاس، يتوقع أن يكون في قلبها. لكنّ الأرض، كما علّمه والده، لا يحميها إلا أبناؤها.

... 

 ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي 

 

ر.خ