في إحدى الأمسيات، وبينما كنت أتصفّح الفيس بلا هدف محدّد، شدّ انتباهي إعلان عادي لا يختلف في شكله كثيرًا عن غيره من إعلانات السفر؛ غير أنّ شغفي بكل ما يمتّ إلى التاريخ بصلة، ولا سيما ما يتعلّق بالأندلس جعلني أتوقّف عنده قليلا. كان الإعلان يقول:
"اقضِ عطلة نهاية أسبوع في قصر تاريخي: Palacio de la Casa de Medina Sidonia"
بدأت أتأمّل الصور واحدة تلو الأخرى. قصر قديم ما يزال قائمًا، بجدرانه العالية ونوافذه الكبيرة، يحمل ملامح زمنٍ مضى بكل حكاياته وأسراره. لطالما أحببت زيارة المدن القديمة، والقلاع، والأديرة، وكل ما بقي شاهدًا على أزمنة غابرة.
توقّفت عند وصف المكان وتاريخه المختصر ثم لفت انتباهي أمرٌ آخر لم أكن أتوقّعه: الثمن كان مناسبًا على نحوٍ يدعو للاستغراب. أغلقت الإعلان بعد ذلك، وعدت إلى تصفّحي المعتاد، لكن فكرة الإقامة في قصرٍ يحمل ذاكرة أندلسية، في مدينة ساحلية جميلة لم تفارقني.
بعد دقائق قليلة، عدت إلى الصفحة نفسها، وملأت استمارة الحجز ببساطة، كما يفعل أي شخص يبحث عن مجرد إقامة هادئة في مكان هادئ. ولم أكن أعلم آنذاك أن ذلك الإعلان لم يكن سوى أول خيط في حكاية أندلسية أعمق مما تخيّلت.
مدينة شلوقة الاسبانية Sanlucar
اللحظة التي دخلتُ فيها القصر، شعرتُ كأنني أخلع العالم عند العتبة. المدخل فسيح، تحمله جدران عالية وسقوف مرتفعة تُشعر الداخل إليه بضآلة حضوره أمام المكان والزمان. انتابني شعور بالهيبة قبل الدهشة. سقفٌ عالٍ تحمله عوارض خشبية منقوشة بزخارف أندلسية دقيقة، تتشابك فيها الأشكال الهندسية في نظام صارم وجميل. الجدران مكسوّة بالجبس المنحوت. الأرضية من بلاط ملوّن تتكرّر فيه النجوم والاشكال، وفي الزوايا أقواس حدوة الحصان تفتح الممرّات بانحناءة واثقة، كأنها أحصنة تدعو الزائر لامتطائها لتأخذه في جولةٍ عبر الزمن.
الأثاث فاخر دون ابتذال؛ مصنوع من خشب داكن مصقول، كراسٍ ذهبية عالية الظهر، وستائر مخملية ثقيلة تنسدل على نوافذ كبيرة، تحبس الضوء وكأنها علقت عمدًا لتحمي القصر وأهله من فضول الناظرين. في المكان تنتشر رائحة قوية للخشب العتيق والجلد ترغم الزائر أن يكون حاضرًا بكامل حواسه. الهواء في الداخل بدا أكثر كثافة كأنه مُشبَع بما تراكم من أنفاسٍ مكتومة وأسرارٍ مخفية. في النهار يبهجك القصر بجماله الأخاذ. أمّا في الليل، فيتراجع الزمن فيه قرونا فيتحوّل إلى كائنٍ حجري ضخم، يبعث في النفس المخاوف ويوقظ فيها الهواجس، ويتركك تحت رحمة ذاكرة مثقلة.
القصر تملكه عائلة نبيلة تنحدر من سلالة عريقة جمعت بين قادة الجيوش وأمراء البحر وحكّام الأندلس. في تاريخ هذه العائلة ظلالٌ داكنة؛ كانوا من المسلمين الذين أُجبروا على إخفاء إسلامهم بعد سقوط الأندلس، وذاقوا قسوة التنصير القسري كما ذاق احفادهم لاحقًا القمع والسجن في زمن فرانكو ثمنا لأفكارهم. ربما لهذا تبدو جدران هذا القصر ضخمة أكثر من اللازم، كأنها ما تزال تحتفظ بألام وأحزان من سكنوا بها، وتهمس به للزائرين.
في ليلتي الأولى في القصر، قررت أن أتجوّل في أرجائه وأروقته الساحرة. وبينما أنا أتجوّل في الطابق العلوي حيث الغرفة التي استأجرتها، لاحظت أن الجميع اختفى من حولي، الخدم والنزلاء. حتى الكهرباء انقطعت، وبدلا عنها كانت هناك شموع تضيء الاروقة. جاريت القصر في لعبته الزمنية، فأخذت فانوسا صغيرا كان معلقا على أحد الجدران، ونزلت الى الطابق الارضي أنظر أين اختفى الجميع.
مشيت ببطء بين الاروقة، وكلما مررت بجدار لمسته بحذر، كأنني أخشى أن أوقظه من سباته العميق. لم ألتق بأحد خلال جولتي القصيرة، وكأن القصر أصبح مهجورا فجأة. وبينما أنا أنتقل في أحد الأروقة المؤدية الى المطعم لعلني أجد النادلة الأنيقة التي استقبلتني في الغداء بابتسامة ساحرة، وصلت إلى جدارٍ مغطّى بورق سميك، نسيجٍ ثقيلٍ فقد لونه. كانت عليه زخارف جميلة بلون أخضر باهت. كانت تنبعث منه رائحةٌ قويةٌ جعلتني أتوقف عنده، كأنها خدّرت كل حواسي وسلبتني إرادتي. مررت كفي على الجدار أتلمسه، فشعرت أنني أمررها على فراغ. ضغطتُ بقوة، فتمزّق الورق. لمست أصابعي شيئًا صلبا تحرّك قليلًا إلى الداخل. دفعته أكثر. فجأة، تحرّك الحائط كلّه. حينها سمعتُ صوتًا مهيبا أفزعني، كصوت حجر ينزلق على حجر. ثم انشقّ الجدار عند خطٍّ لم أره من قبل، وانفتح باب خرج منه هواءٌ باردٌ، رطب، يحمل رائحة الورق العتيق.
تردّدتُ… نظرت حولي علني أجد أحدا، ثم ناديت بصوت مرتفع:
Hola !
لم يرد علي أحد، فاتبعتُ حدسي و اقتربت اكثر من الباب المفتوح امامي.
أبصرت درجات غير منتظمة تؤدي الى الأسفل. مع كل خطوة انزلها، كان القصر الذي أعرفه يبتعد، وأتقدّم نحو شيءٍ آخر مختلف. في الأسفل، بدأت تتكشف أمامي رويدًا رويدًا غرفةٌ صغيرة مظلمة، جدرانها حجرية، يغمرها العفن. دخلت اليها فإذا هي مليئة بكتب، ومخطوطات، وأوراق مربوطة بخيوط بالية، وخرائط بلا عناوين مكدّسة ومبعثرة.
وقفتُ طويلًا أحدّق في الكتب من حولي، أحاول أن أتأكد هل أنا في حلم أم في واقع؟
ثم وضعتُ الفانوس بحذر، وبدأت أتلمس الكتب. فجأة وكأن أحدا دفع يدي دفعة واحدة فإذا بي أمسك كتابا ضخما أو ربما هو من أمسكني. فتحته على الصفحة الأولى، وبخطٍّ بالكاد استطعت قراءته، كان مكتوب عليها ما يلي:
» اسمي عبد الله الإدريسي، رجلٌ من سبتة. أبحرت مع رجل يدعى ياسين الصنهاجي يوم الاثنين، 10 ربيع الآخر سنة 389 هـجرية، إلى أرض لا أعرف لها اسمًا… «
توقّفتُ. لم أستطع أن أُكمل.
سرت في جسدي قشعريرةٌ، وتبعها دوارٌ مفاجئ، كأن الأرض مالت تحت قدميّ. أحسستُ برطوبةٍ في يدي. نظرتُ إليها، فإذا هي مبلّلة، مليئة بالحبر. لم يكن حبرًا جافًا كما ينبغي أن يكون بعد قرون، بل لزجًا، داكنًا. احسست بملوحة في فمي، ورائحة قوية اعرفها جيدا فانا ابنة مدينة ساحلية. للحظةٍ، خُيّل إليّ أنني لم أعد في القصر، بل على سطحٍ يتمايل.
أغلقتُ الكتاب بسرعة، ومسحتُ يدي بطرف ثوبي حتى لا ألطخ الكتاب. بالكاد استطعت حمله من شدة الخوف الذي تملكني وصعدتُ الدرجات. أعدتُ الحائط إلى حالته الأولى. غير أن الثقب الذي أحدثته فيه كان باديا بوضوح. أسرعت الى غرفتي حيث استلقيت فوق السرير ودفنت نفسي تحت الافرشة وأنا أرتعش.
ربيع سنة تسعٍ وتسعين وتسعمائة للميلاد (999م)
مرسى سبتة
لستُ قائدًا، ولا صاحبَ قرار، ولا واحدًا من أولئك الذين تُذكر أسماؤهم في الكتب. كنتُ رحالة وكاتبا مغمورا من سبتة، أدوّن الأحداث دون أن أنغمس فيها. إلى أن دعيت إلى رحلة عجيبة، فتغيّر كلّ شيء. أصبحتُ الكاتب الغارق فيما يكتبه، بكل جسده وحواسه، حرفيًا لا مجازًا. حين طلب منّي ياسين أن أكون مؤرّخ الرحلة البحرية التي جمع لها رجالًا أشدّاء امازيغ وعرب واندلسيين، سألته عن الوجهة، فأجابني بهدوءٍ لا يخلو من اعتزاز:
إلى أرضٍ جديدة في أرض الله الواسعة.
في صباح يوم الانطلاق من أيام شهر أبريل المعتدلة، كان المرسى شبه خالٍ إلا من رفقاء هذه الرحلة. لا رايات، ولا طبول، ولا مراسيم وداع. ثلاث سفن متوسطة الحجم، خشبها داكن من فرط ما شرب من مياه البحر المالحة، وأشرعتها مطويّة. كان ياسين واقفًا عند المقدّمة. تقدمت إلى السفينة وأنا أترك خلفي أكثر ممّا أحمل معي. لم يكن في الأمر طلب مجد، ولا وعد بغنيمة ثمينة. بعضنا جاء بدافع طلب الرزق اليسير، بعضنا هرب من شيء لا يريد أن يسمّيه، أمّا أنا فجئت لأنّ البحر كان أوسع من حياتي، ولأنّ البرّ ضاق بأسئلتي.
عندما تحرّكت السفن، لم نلتفت إلى الخلف. كانت الريح معنا، هادئة ولطيفة. تمتم أحدنا بدعاء السفر، وشدّ آخرون الحبال... أمّا أنا فكنتُ أحدّق في البحر تارة وانظر الى حبري تارة أخرى، أحاول أن أُقنع نفسي أن هذه الرحلة لن تكتب نهايتي، بل سأكتب فيها قصة رحلة عظيمة لا أسم لها بعد.
قال ياسين بصوتٍ واثق وكأنه قرأ ما بداخلي:
إنّ البحر لا يستسلم لمن يتحدّاه، بل لمن يستسلم له.
***
لا أعرف متى غفوت، لكنني استفقتُ في منتصف الليل أحس بإنهاك شديد. كان ضوء الفانوس خافتًا. عند طرف السرير، وقفت امرأة طويلة ونحيلة وشاحبة الملامح تحدّق بي في صمت. لم أصرخ. لم أتحرّك. كان وجهها مألوفًا، لكن لباسها مختلفًا. كانت ترتدي ثوبًا أحمر طويلًا، شال أسود يغطي شعرها، مطرّز بألوان زاهية، تشبه إلى حدٍّ كبير غطاء الرأس الإشبيلي الذي اشتريته في إحدى زياراتي إلى مدريد، la sevillana.
سألتني بصوتٍ إسباني فصيح وهادئ:
— ¿Te gustó el viaje؟
هل أعجبتك الرحلة؟
فركتُ عيني للتأكد انني لا أحلم.
كانت قد اختفت.
الكتاب الذي كان على صدري بدأ ينزلق ببطء، كأن قوة خفية تسحبه بعيدًا. مددت يدي لأمسكه، لكنني لم أمسك سوى الهواء.
نهضتُ فورًا. تركتُ سريري ونزلتُ إلى الطابق الأرضي، أبحث عن الباب السري، عن الفجوة في الجدار. تفحّصتُ الحائط جيدا. لم أجد شيئًا. لا شقّ، ولا باب. فجأة ظهرأمامي أحد الخدم، فانتبهت أن بهو القصر أصبح مضاءا وفيه بعض النزلاء. حمدت الله انني كنت ما زلت البس ثياب الخروج وليس النوم. ابتسمت له، ثم عدت الى غرفتي وراسي يكاد ينفجر من كثرة الاسئلة.
ثم، فجأة، تذكّرت.
تذكّرت عبد الله.
وتذكّرت ياسين، وقولته عن الاستسلام. لكن هذه المرّة لم تكن عن البحر، بل عن الذاكرة:
إنّ الذاكرة لا تستسلم لمن يتحدّاها، بل لمن يستسلم لها.
تنفست قليلا لاسترجع هدوئي. وفجأة تذكّرت الرحلة، كأنني لم أقرأها بل عشتها، وكأنني كنت فاقدة الذاكرة ثم استعدتها أخيرا.
نهضتُ كالذي مسّه الجن. اندفعتُ نحو الحاسوب، جلست وبدأت أكتب. بلا ترتيب، بلا مراجعة. كل ما أتذكّره. كل ما قرأته… أو رأيته. لم أتحرّك من مكاني حتى دوّنت كل شيء.
وعندما انتهيت، لم أعد متأكدة:
هل كنتُ قارئة؟ أم كاتبة؟ أم تراني شاهدة عيان ؟
بدأت أصعد وأنزل بين الصفحات المكتوبة.
هل حقًا كتبتُ رسائل بين عبد الله وصديقه المسلم من الهنود الحمر؟
ثم توقّفت عند صفحة أخرى:
هل أنا من كتبتُ أن ياسين، استُقبل بترحاب من قائد إحدى القبائل عند وصوله إلى احدى شواطئ ما يُعرف اليوم بالبرازيل؟
في تلك الصفحات، لم يكن كولومبس موجودا. كان لا يزال حبيس الغيب. وكانت الأرض الجديدة آهلة بشعوب عريقة وحضارات ضاربة في عمق الزمن: المايا، الأزتك، الإنكا، ومئات القبائل التي عرفت الأرض، وسمّتها، ودفنت موتاها في ترابها، ونسجت أساطيرها قبل أن يولد هو بقرون.
كولومبس، الذي سيأتي بعد ذلك بأربعة قرون، لم يكتشف أمريكا؛ بل وصل إليها مصادفة، وهو يبحث عن طريقٍ تجاريٍّ للهند. وصل، إلى هناك ثم سمّى ما رآه "اكتشافًا"، ليمنح القتل والسرقة والاستعباد اسمًا نبيلًا. جاء ببطولة مصطنعة، وكذبة ستُكرَّس في الكتب. كذبة فتحت باب عصرٍ من الظلمات، سُفكت فيه الدماء باسم الاكتشاف، واستُعبدت الشعوب باسم الاستعمار، وأُعيد تشكيل التاريخ والجغرافيا ليخدما الناهبين وقطاع الطرق.
أغلقتُ الحاسوب. لم أعد أعرف إن كنتُ أنا من كتب هذه الصفحات، أم أنها هي التي كتبت قصتي من جديد.
كان الوقت فجرًا. توضّأتُ، ثم صلّيت صلاةً أخرجتني من لعبة القصر وأبعاده الزمنية.
كنتُ منهكة. عدتُ إلى النوم، وكلّي أملٌ أن يفتح لي القصر مرة أخرى بابه السري، لأكتشف مزيدًا من أسراره؛ لعلّها تسدّ الفراغات بين القصص التي حُشيت بها رؤوسنا.
ثم استسلمتُ للنوم.
...
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي .
ر.خ




