تساؤلات صوفيا
حين يجنّ الليل وتشتدّ العتمة، ويخفت الضجيج من حولنا، تنبعث في أعماقنا أحيانا أصوات أخرى… أصوات أكثر صخبًا وإلحاحًا، كأنها كانت تنتظر نوم العالم لتصحو. أصوات طالما تجاهلناها أو قمعناها وسط انشغالنا اليومي وركضنا في دوامة الحياة. إنها أسئلة مُرهقة، لكنها صادقة:
لماذا أنا هنا، في هذا الزمان وهذا المكان بالذات؟
هل خُلقتُ لأمضي عمري في روتين متكرر: نوم واستيقاظ، واجبات عائلية لا تنتهي، ومهام عادية تستهلكني؟
متى كانت آخر مرة شعرتُ فيها أنني سعيد؟
لماذا أجد وقتًا لكل شيء إلا لما أحبّه حقًا؟
هل يراني أولادي، أو أهلي، كما أتمنى أن يروني؟
وأين هي تلك الأحلام التي خبأتها يومًا في صدري… كيف اختفت، وكيف سمحت لها أن تضيع وسط دوامة الحياة؟
وهل هذه هي الحياة التي أردتها؟ أم أنني أعبر بجوار قدري الحقيقي دون أن ألتفت إليه، غارقًا في وهم مريح لكنه زائل…
وماذا لو اكتشفتُ متأخرا أن ما كان مقدرا لي أعظم بكثير، لكنني بجهلي ركنتُ إلى السهل والعادي؟
ثم سرعان ما تمر في ذهننا كلمات المفكرين والدعاة والمدرّبين التي تدعونا لأن تكون لنا أهداف كبرى تتجاوز روتيننا اليومي، لنكون قادة وصنّاع تغيير. كلمات توقظ فينا العزيمة والطموح، وتذكّرنا بأننا لسنا كائنات عابرة، بل خُلفاء الله في أرضه، جديرون بتحقيق إرادته في الاستخلاف، والسعي لما هو أسمى وأجلّ من تفاصيل حياتنا اليومية المملة؛ لكن وسط هذا الصراع الداخلي، ينبثق صوت آخر يتساءل: أليس كافيًا أن نحيا حياة بسيطة فاضلة؟ أن نزرع ونحصد، نربّي ونعلم، نصلي ونعمل الصالحات، ثم نمضي بسلام؟ أليس في هذا الروتين العادي معنى عميقا يغنينا عن مطاردة الأمجاد الكبرى؟
في الحقيقة، هذه التساؤلات العميقة ليست وليدة عصرنا الحديث، ولا هي مجرد انعكاس لموجة الخطابات التحفيزية التي تعج بها المنصات الاجتماعية، بل هي قديمة قدم الفكر الإنساني نفسه، فقد شغلت العقل البشري منذ القِدم.
قبل سنوات عديدة، قرأت رواية "عالم صوفيا" للكاتب النرويجي جوستاين غاردر باللغة الفرنسية. وقد كتبها بلغته الأم، وهي النرويجية، ونشرت سنة 1991، ثم تُرجمت إلى أكثر من خمسين لغة حول العالم. لم تكن مجرد رواية عادية، بل رحلة تعليمية في الفلسفة الغربية وأهم مدارسها وروادها على الرغم من بساطتها واقتصارها على لمحات سريعة.
بطلة الرواية صوفيا فتاة مراهقة تتلقى دروسًا في الفلسفة عبر رسائل من شخص مجهول، فتتعرف على أفكار كبار الفلاسفة من سقراط وأفلاطون وأرسطو مرورًا بديكارت وكانط، ووصولًا إلى سارتر. وخلال ذلك تجد صوفيا أن الأسئلة التي تواجهها حول حقيقة الوجود وكيف يحيا الإنسان حياة ذات معنًى هي ذاتها التي طرحها أولئك الفلاسفة عبر العصور. تبدأ الرواية من لحظة الدهشة الأولى، حين تتلقى صوفيا رسائل غامضة تسألها: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ وكأن الكاتب يريد أن يقول إن الدهشة هي أصل الفلسفة، وأن التساؤل أمام سرّ الوجود هو الشرارة الأولى للتفكير الفلسفي. فالإنسان، منذ القدم، لم يتعامل مع العالم كمعطى بديهي، بل كمجموعة من الأسرارّ تستدعي البحث والتأمل.
سقراط كان يردد أنه يوجد الكثير مما لا يفهمه وكان يتجول في أثينا طارحا الأسئلة على الناس ومحاورا لهم من منطلق جهله، أو هذا ما كان يدعيه ليحفز الناس على اعادة التفكير في مسلماتهم. أفلاطون كان يعتقد أن هذا العالم المادي ناقص، وما نراه فيه مجرد ظلال لأفكارأزلية ثابتة في عالم تابث سماه " عالم المُثل". لذلك رأى أن السعادة الحقيقية تتحقق عندما تنسجم النفس ويقودها العقل نحو إدراك فكرة "الخير" الأسمى، وهو مستوى لا يصل إليه تمامًا إلا الفلاسفة بعد تربية عقلية طويلة. أما أرسطو فخالفه واعتبر أن السعادة ليست في عالم آخر بل في حياتنا اليومية. وهي تعني عنده "العيش الجيد" من خلال ممارسة الفضائل مثل الشجاعة والاعتدال، والاعتماد على العقل لتوجيه أفعالنا. ورأى أن الإنسان لا يزدهر إلا داخل المجتمع.
بعد أرسطو ظهرت مدارس فلسفية كان هدفها البحث عن السعادة بطرق عملية. السينيكيون دعوا إلى التحرر من رغبات الدنيا ورفض مظاهر الترف، ورأوا أن العيش البسيط وفق الطبيعة هو الطريق إلى الحرية. أما الرواقيون فاعتبروا أن الكون تحكمه روح أو عقل شامل، وأن الإنسان يحقق السعادة عندما ينسجم مع هذا النظام الكوني بالتحكم في انفعالاته والعيش وفق الفضيلة. في المقابل، ركّز الأبيقوريون على أن اللذة المعتدلة وغياب الألم هما الخير الأعلى، ورأوا أن الطمأنينة الداخلية تتحقق بالابتعاد عن الخوف من الآلهة والموت، والعيش البسيط.
تناول غاردر أيضا فلسفة عصر النهضة الأوروبية (القرن 15–16) ثم عصر التنوير (القرن 17–18). حيث أخذ سؤال معنى الحياة منحى جديدًا، حيث ساد الاعتقاد بأن التقدم العلمي واستخدام العقل كفيلان بجعل الحياة أفضل معنىً ورفاهيةً للبشرية. في هذه المرحلة رأى مفكرو الغرب أن الإنسان قادر على منح حياته معنًى وقيمة من خلال استخدام عقله وتحقيق إنجازاته على الأرض. فها هو ديكارت يؤكد أن الوعي بالذات هو أساس الوجود قائلاً: أنا أفكر، إذن أنا موجود. أما بحلول القرن التاسع عشر والعشرين، واجه الفكر الغربي تحديات جديدة قلبت كثيرًا من المسلّمات لديه، كنظرية التطور عند داروين وأبحاث فرويد في النفس التي كشفت عن دوافع لا واعية تحرك الإنسان. في خضم ذلك، ظهر تيار الفلسفة الوجودية وكان من مفكريه سارتر ليعلن أن العالم قد يكون عديم المعنى في حد ذاته، وأن الإنسان هو من يضفي المعنى على وجوده من خلال اختياراته الحرة. وهذه الحرية وإن منحت له إمكانية تشكيل حياته، فإنها في الوقت نفسه عبء يضعه أمام قلق مستمر ومسؤولية لا تنتهي. أشار غاردر أيضا في روايته إلى الفلسفة الإسلامية، لكن باقتضاب لا يصل الى مستوى غنى الثراث الفلسفي الإسلامي. حيث خصص حيزا لفكر ابن رُشد الذي اشتُهر بشرحه لفلسفة أرسطو وقوله بانسجام الحقيقة الدينية معها.
في "عالم صوفيا"، تكتشف البطلة من خلال الرسائل أن كل فيلسوف عبر التاريخ إنما انطلق من سؤالٍ شخصي حول الوجود والمعرفة والقيم. وتنتهي رحلة التعلم الفلسفية برسالة للقارئ مفادها أنه بعد أن مررنا بكل أطوار الفكر من إيمان العقل وإيمان الروح، ومن حتمية القدر إلى حرية الإنسان، نجد أنفسنا في النهاية أمام مسؤوليتنا الخاصة في إيجاد معنى لحياتنا. لكن الشيء الأكثر رمزية في الرواية في نظري، هو حين تكتشف صوفيا أنها قد تكون مجرد شخصية في رواية، لتفتح بابًا للتأمل: هل نحن بدورنا شخصيات في قصة كبرى؟ وهل واقعنا الذي نحياه هو الحقيقة النهائية التي نصنعها بأيدينا، أم هو مجرد مستوى من مستويات وجود أوسع وأعمق؟
* * *
كَمُسلمة شابة كنتُ أقرأ الرسائل بطريقة مختلفة جذريًا عن صوفيا، التي تمثل قارئًا بفكر غربي مادي. فصوفيا كانت تتلقى المعارف وكأنها صفحة بيضاء يخطّ فيها الكاتب ما يشاء، وتراكم المعرفة عندها يتم عبر مراكمة الأسئلة والأجوبة المقترحة. أما المسلم، فليس صفحة فارغة ولا عقلًا تائهًا في فضاء بلا مرجع، بل يمتلك بوصلة توجهه إلى مرفأ ترسو عنده كل التساؤلات مهما بدت صعبة أو عميقة. هذه البوصلة هي كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا لا يضيع في دوامة التساؤلات، ولا يتيه في خضم النقاشات.
الإسلام يقدّم حقيقة الوجود بوضوح كامل: أن لهذا الكون خالقًا واحدًا، ربًّا قادرًا عليمًا حكيمًا رحيمًا، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وغاية الإنسان في هذا الوجود معروفة منذ نعومة أظافره: عبادة الله وحده. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. والعبادة في الإسلام ليست محصورة في الشعائر وحدها، بل هي شاملة لكل فعل خير يُبتغى به وجه الله، كبيرًا كان أم صغيرًا. لذلك فإن جولة المسلم في رؤى الفلاسفة وإشكالاتهم الفكرية حول معنى الحياة والسعادة والقيم، لا تزعزع يقينه، بل تزيده ثباتًا. إذ يكتشف أن الإنسان من دون بوصلة الوحي يبدع في طرح الأسئلة ومناقشة الأجوبة، ثم دحضها لتظهر أخرى، فيتنقل من مدرسة إلى أخرى بلا قرار، ليخرج في النهاية ظمآن عطشان.
صوفيا المسلمة
نعود الان إلى أسئلتنا الوجودية التي طرحناها في بداية المنشور التي لا تقف عند حدود التفكير الفلسفي، بل يتجسد في حياتنا اليومية. فكثيراً ما صُوِّر لنا أن تحقيق الذات مرهون بالمناصب القيادية والإنجازات العظيمة المادية، والمشاريع الضخمة فقط. وكأن قيمتنا تُقاس بكم نملك أو بكم نحن مشهورين بين الناس. وكم شخصا ينهك نفسه بالشكوى لأنه يقارن مسيرته البسيطة بمن سبقه إلى مناصب كبيرة أو مشاريع ضخمة، فيستبد به الإحباط ويظن أن حياته تمضي هدرًا. وكم من امرأة فاضلة مناضلة، رغم ما تبدله في بيتها من حب وتربية وصبر، تشعر أنها ضيعت أحلامها الكبيرة في روتين يومي لا ينتهي. إن هذه المشاعر المؤلمة تُثقِل الروح، وتغرس في القلب المرارة والعجز، حتى يظن المرء أن ما يملكه لا يستحق التقدير، وأن ما يعيشه لا يحمل معنًى. وهذا حقيقة يعكس تصورا غربيا ضيقا ولا يعكس حقيقة الانسان المسلم. ففي النظريات الغربية، "تحقيق الذات" يعني أن يعيش الإنسان لأجل نفسه، أن يطلق إمكاناته، أن يحقق رغباته، وأن يصل إلى أقصى نجاح دنيوي. هذا التعريف يجعل النفس هي المركز، ويقيس النجاح بمقدار الإنجاز الفردي أو المتعة الشخصية.
لكن الإسلام لديه رؤية شاملة للحياة تتسع لبعدين قد يبدوان متناقضين، وتوفّق بينهما في تناغم بديع. فمن جهة، يرفع الإسلام من قيمة الطموح والإنجاز في الأمور التي تنفع الناس وترضي الله، ويعتبر الإنسان مسؤولًا عن عمارة الأرض وبناء الحضارة كجزء من خلافته لله، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌۭ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]. وهذه الخلافة تكليف عظيم يقتضي من الإنسان أن يسعى لتحقيق الأفضل وأن يكون صاحب أثر. لذا نجد أن المسلمين عبر التاريخ أسسوا حضارة زاهرة، وكان دافعهم في ذلك إيمانهم بأن العمل الصالح في الدنيا جزء من عبادة الله.
كما أن النبي ﷺ حث على المبادرة إلى الأعمال النافعة مهما صغُرت، فقال: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"، تشجيعًا على مواصلة العمل النافع حتى آخر لحظة. كما قال ﷺ: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" حاثًا على القوة بمعناها الشامل روحيًا وماديًا وعلميًا، ما دام ذلك في الخير، وحثّ على قيمة العمل المنتج فقال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
ومن جهة أخرى، يقر الإسلام بأن قيمة المرء عند الله لا تُقاس بمظاهر الدنيا من مالٍ وفير أو منصب مرموق أو كثرة أبناء، بل بصدق إيمانه وصلاح عمله ولو كان بسيطًا. قال ﷺ: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وشجّع على أبسط صور المعروف، فقال ﷺ: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وقال أيضًا: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". بل إن عملًا صغيرًا قد يكون سببًا في رحمة الله، كما في قوله ﷺ عن المرأة التي سقت كلبًا: "فشكر الله لها فغفر لها".
وخلاصة القول، علينا أن نستحضر أن الإسلام جعل تحقيق الذات أوسع وأعمق، يبدأ برحلة داخلية لتزكية النفس، والعبادة في الخلوات، ثم يمتد لتربية الأبناء، وبناء الأسرة، وخدمة المجتمع، والسعي في أي عمل نافع يرضي الله. فالمرأة قد تحقق ذاتها في بيتها بصبرها وتربيتها، كما قد تحققها في علمٍ تنفع به الأمة أو خدمةٍ تقدمها للناس. وكما قال الدكتور عبد الرحمان بكار: " النجاح الحقيقي لا يقاس بالمال أو المكانة، بل بقدرة الإنسان على الحفاظ على قيمه ومبادئه في مواجهة تقلبات الحياة. التوازن بين الطموح والنقاء الداخلي هو مفتاح السعادة المستمرة". وهكذا يمكن للمسلم أن يعيش حياة بسيطة ظاهريًا لكنها عميقة المعنى والتأثير. كما يجب أن نستحضر أيضا أن ما وقع فهو الذي أراده الله، وما أراده الله فهو الذي فيه الحكمة البالغة. وفي كل واقع، كل إنسان له وضعه وأدواره، ولا يتحقق شيء إلا بتوفيق الله الذي يقسم الأرزاق ويهب النعم، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53].
ويبقى السؤال الذي يجب أن نكرره باستمرار: في هذا الواقع، هل لما أفعله الآن معنى في ضوء الغاية الكبرى؟ إن كان الجواب "نعم"، فقد أدركنا الهدف، وإلا صار البحث عنه ضرورة إيمانية. وهكذا يعيش المؤمن متوازنًا بين الرضا بما هو كائن، والسعي إلى ما ينبغي أن يكون.
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها عبر الذكاء الاصطناعي.
