الأحد، 5 يناير 2025

 الكلمات

كانت القراءة ومازالت بالنسبة لي أكثر من مجرد هواية ؛ لقد كانت نافذتي الكبيرة التي أطل من خلالها على العالم. كنت كلما بدأت قراءة كتاب، أشعر وكأنني في رحلة تبدأ من الصفحة الأولى وتنتهي في عوالم لا حدود لها... منذ اللحظات الأولى أمام مكتبة البيت البسيطة، إلى سنوات الدراسة الثانوية، تشكّلت علاقتي بالكتب متأرجحة ما بين الشغف والملل. أما الكتابة، فكانت سرّي الصغير، أعبر بها عن أفكاري ومشاعري. 

لكن مع انتقالي إلى المرحلة الجامعية، بدأت هذه العلاقة تأخذ شكلًا مختلفًا، أكثر وعيًا وتحليلًا، حيث لم تعد القراءة فقط متعة خاصة؛ بل أصبحت مدخلًا لفهم أعمق للذات والعالم. في تلك الفترة، وجدت نفسي أواجه نوعًا مختلفًا تمامًا من القراءة والكتابة؛ قراءة تتطلب انضباطا أكثر منه شغفا، وكتابة تركز على التحليل المنطقي بدل التعبير الحر. أصبحت أبحث في الكتب لا عن المتعة فقط، بل عن أدوات للفهم، وعن طرق لتفكيك الأفكار وبنائها من جديد. لقد نقلتني تلك التجربة من قارئة هاوية تتنقل بحرية بين القصص والروايات، إلى قارئة تحاور الكتب ومؤلفيها. وأجمل ما في تلك التجربة أننا كنا نقرأ مؤلفات متنوعة تحت مظلة موضوع واحد. كل عام، يُحدَّد لنا محور معين، فتُختار الكتب بعناية لتلتقي حول تلك الفكرة.

 

في السنة الأولى، خضتُ للمرة الأولى تجربة قراءة عدة كتب وتحليلها من زاوية موضوع واحد: "السيرة الذاتية"L'autobiographie"  ". كان لدينا ثلاث أعمال مبرمجة: "كلمات" لجان بول سارتر، "اعترافات" لجان جاك روسو، و"مذكرات أدريان" لمارغريت يورسنار.

في البداية، غمرتني متعة خاصة لم أذقها من قبل، متعة أن أغوص في عوالم متعددة تدور كلها حول فكرة واحدة، كأنني أتنزه في حدائق شتى، لكل منها ألوانها وروائحها، ومع ذلك يجمعها سياج رفيع. كنت مأخوذة بذلك الإيقاع العجيب الذي يجعل من كل نص نافذة جديدة على المعنى ذاته، ولكن من زوايا مختلفة. لكن مع مرور الوقت، بدأت أشعر بصعوبة شديدة؛ إذ أن أسلوبي التعبيري بالفرنسية كان يفتقر إلى الغنى اللازم ليترجم أفكاري بسلاسة. كنت أحمل في داخلي معاني عميقة، غير أن الكلمات التي أعرفها كانت غير قادرة على أن تحتمل كل ذلك العمق الذي اسعى اليه.

ويا للمصادفة، طيلة السنة الدراسية، كان الأستاذ يحدثنا من خلال تلك المؤلفات عن قوة الكلمة وتأثيرها وعن قصورها عندما تخذل المعنى، وكأنه كان يصف تلك المعاناة الصامتة التي ترافقني كلما أردت أن أتوسع في فكرة معينة. فلقد كنت أشعر أن فقر المفردات يحاصرني، وأن صمتي أحيانًا أبلغ من كلماتي المرتبكة.


وبعد قراءتي "الكلمات" Les Mots لجان بول سارتر، فهمت أنني لم أكن الوحيدة التي تعاني مع الكلمات وتشعر بالعجز للتعبير عن تجربتها. سارتر نفسه كتب في مؤلفه:

"Longtemps j’ai pris ma plume pour une épée: à présent, je connais notre impuissance. N’importe : je fais, je ferai des livres ; il en faut ; cela sert tout de même."

"لوقت طويل اعتبرت قلمي سيفًا : الآن، أعرف عجزنا. ورغما عن ذلك: أكتب، وسأكتب ؛ لا بد من هذا؛ فهو شيء مفيد."

في هذا الاقتباس، يعترف سارتر بمحدودية الكلمة، لكنه لا يزال يؤمن بأهميتها وضرورتها. سارتر، كشف لي أيضا الوجه الآخر للكلمات: فهي قادرة على أن تمنحك الوهم كما تمنحك الوضوح، قادرة على أن ترفعك نحو المعنى أو أن تغرقك في الفراغ.

ثم جاءت لحظة قراءتي "الإعترافات" Les Confessions لجان جاك روسو. كان تعبير روسو أكثر عفوية وأكثر جموحًا. من خلال اعترافاته، شعرت أن الكلام يتحول إلى فعل خلاص. حيث كتب:

"Je veux montrer à mes semblables un homme dans toute la vérité de la nature ; et cet homme, ce sera moi."  

كان يفتح باب القلب على مصراعيه، غير عابئ بما قد يراه الآخرون. مع روسو، فهمت أن البوح بالكلمات الناقصة أحيانًا أكثر صدقًا من الصمت، وأن الاعتراف، رغم ارتباكه، يملك قوة لا تجدها في البلاغة المتكلفة.

أما مع "مذكرات ادريان" Mémoires d’Hadrien لمارغريت يورسنار، فقد وجدت نفسي أمام تجربة مختلفة تمامًا. فالكلمة لم تعد مجرد وسيلة للتعبير الآني، بل أصبحت مقاومة للزمن والنسيان.

 في السنة الثانية، وجدت نفسي أمام تحدٍّ جديد، تحدٍّ بدا لي أكبر بكثير من الكلمات ذاتها. لم نعد نتحدث فقط عن اللغة وأسرارها، بل انتقلنا إلى مساءلة أعمق: عن معنى أن نكون بشرًا. كان الموضوع الذي عالجناه هو "الإنساني واللاإنساني"، وانطلقت رحلتنا مع ثلاثة أعمال مختلفة ومقلقة الى حد الرعب: ميديا لسينيكا، دبليو أو ذكريات الطفولة لجورج بيريك، وفرانكنشتاين لماري شيلي.

في السنة الأولى، كانت الكلمة وسيلة لمحاولة الإمساك بالذات، بالحقيقة، والذكريات. أما الآن، فقد وجدت نفسي في مواجهة مع الوجه الآخر للإنسان، ذلك الذي لا يمكن للكلمات وحدها أن تبرره أو تحتويه. فاللغة هنا تتجاوز دورها التقليدي في سرد الوقائع، لتكشف انهيار الإنسان أمام تلاشى القيم التي تحفظ تماسك الذات: العائلة، والحب، والذاكرة.

في ميديا لسينيكا، اكتشفت أن الكلمة قد تتحول إلى صرخة غضب تفجر العنف في قلب الإنسان المجروح. لم تكن ميديا فقط امرأة تتحدث عن جرحها، بل كانت صدى لانهيار الإنسان امام ألمه.

 وفي دبليو أو ذكريات الطفولة لجورج بيريك، كانت الكلمات تعبر بطريقة ملتبسة عن الطفولة المبتورة والذاكرة المفقودة. الكلمات كانت عاجزة أحيانًا عن حمل كل الرعب والألم، وكأنها تتكسر تحت وطأة ما لا يمكن التعبير عنه.

أما مع فرانكنشتاين، وجدت السؤال الأكبر يطرح نفسه:هل يكفي أن نتكلم لكي نظل بشرًا، أم أن هناك شيء أعمق هو ما يربطنا بالآخرين، شيء لا تصنعه الكلمات وحدها؟

من خلال قراءتي لهذه المؤلفات، أدركت أن الكلمة ليست مجرد ترف لغوي أو استعراض بلاغي، بل هو بحث شاق عن الذات، ومقاومة متواضعة أمام النسيان، ومحاولة مستمرة للقبض على لحظات من الحقيقة . أدركت أيضا أن الكلمات قد تعجز عن وصف كل ما نشعر به، وقد تخوننا أحيانًا، لكنها تظل وسيلتنا لمساءلة الذات والعالم. 

في هذه المدونة المتواضعة، لا أكتب لأقدّم أجوبة، بل لأستعيد صوتي وسط صخب الحياة، ولأشارك القارئ بعض الأسئلة التي طرحتها على نفسي، عبر خواطر متعثرة أحيانًا، غامضة أحيانًا، وواضحة أحيانًا أخرى. هذه الخواطر هي محاولتي الصغيرة للقبض على لحظات تومض بالحقيقة ثم تنطفئ، وعلى أفكار تتشكل ثم تتلاشى، وعلى معنى يتوارى كلما اقتربنا منه.

...  

ر.خ

ملاحظة: الصور المعروضة  تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي.