صفحة في رواية قبل الأوان
رائحة مفقودة
في يوم من الأيام، تلقيت دعوة لحضور دورة للتنمية الذاتية تستمر لثلاثة أيام. لم أتردد كثيرًا في قبولها، فقد كنت أود أن أهرب من الروتين اليومي، بالإضافة الى فضولي المعهود لاكتشاف كل ما هو جديد لعله يفيد. وكما يقولون: الفضول قتل القطة؛ لكن القطة على الأقل تملك حاسة شم مذهلة!
في اليوم الأول، عند الساحة الصغيرة المقابلة لمركز التكوين، استوقفني مشهد رجل خمسيني الملامح. لم يكن في مظهره ما يلفت، لا لباسه ولا هيأته، سوى تلك السيجارة التي كان يمسكها بين أنامله بتوتر. بدا مستعجلاً، وكأن شيئًا يلاحقه.
توجهت نحو القاعة، حيث بدأ الحضور بالتوافد. بعض الوجوه كانت مألوفة، والبعض الآخر ألتقيه لأول مرة. جلسنا نتبادل التحايا والمجاملات المعتادة، والمدرب لم يصل بعد. وفجأة، دخل الرجل نفسه، ذلك الذي كان يدخّن في الخارج. وبنظرة هادئة وصوت أجش، حيانا جميعًا. ثم، بصوت هادئ، قدّم سيرته المهنية دون إسهاب ولا استعراض.
انطلقت الدورة، وكان أغلب ما قيل فيها مألوفا لي ولأغلب الحضور، مفاهيم نكررها كلما ضاقت بنا الحوارات واشتدّت الحاجة إلى ما نسميه بـتطوير الذات. لذا، كانت الحصة الأولى عبارة عن نقاشات وأسئلة وأجوبة، كلها تدور في حلقة شبه مفرغة، كأننا جميعاً نبحث عن ثغرة صغيرة في الجدال لنتسلل منها إلى فكرة جديدة.
كانت بعض التمارين التي قمنا بها خلال الدورة، بمثابة أحجار صغيرة تسقط في الماء الراكد، تثير دوائر متشابكة من التعليقات، والانتقادات، بل وحتى سخرية مبطنة، كانت تمر بيننا كغمزات متواطئة لا يلتقطها إلا من خبر هذه الأجواء. كانت تلك التمارين، في ظاهرها، محاولات بسيطة لكسر الجليد أو دفعنا إلى التفكير خارج الصندوق كما يقال، لكنها كشفت أيضا هشاشة الكثير من المفاهيم والممارسات. أذكر جيداً تمريناً جعل البعض ينظر إلى الآخر بسخرية، أو يهمس مازحاً...
كان التمرين بسيطًا في ظاهره، من ذلك النوع الذي يبدأ بالجملة الشهيرة: "دعونا نسترخي، نأخذ نفسًا عميقًا، نغمض أعيننا..."؛ لكنه أثار العديد من التساؤلات حول واقعية وجدوى تمارين التخيل، أو حتى الغاية الحقيقية منها. المهم أن المدرب طلب منا الاسترخاء ومحاولة تذكر رائحة عطرنا المفضل.
جلست باستقامة طفلة مطيعة، أخذت نفسًا عميقًا كما لو أنني أستعد للغوص في بحر من العطور الساحرة، وأغمضت عيني باستسلام؛ لكن كانت هناك مشكلة صغيرة. فحاسة الشم لديّ بالكاد موجودة، تظهر وتختفي فجأة دون سابق انذار.
أتذكّر أنني في صباحات نادرة، حين تفاجئني رائحة القهوة وأنا أعدّها، أقفز فرحًا، أستنشق العالم، وأبدأ في شم كل شيء كما لو كنت أخشى أن أفقد الرائحة مرة أخرى: الصابون، الخبز، العطور... حتى ملابسي!
لكن اليوم؟ آه، اليوم كان من تلك الأيام الباهتة، حين تنهض من فراشك ولا تجد شيئًا. لا رائحة قهوة، ولا رائحة خبز، ولا حتى أثارا لرائحة في المنزل، وكأنه فارغ تماما من أي شيء. هذا الفراغ الأنفي الكامل، هو ما جعلني أقاوم الضحك بشراسة بينما صوت المدرب ينساب بكلمات حالمة: "تخيلوا الرائحة... استدعوا ذاكرتكم..."
أيّ ذاكرة؟ أيّ رائحة؟ كنت أبحث في ذهني عن صورة عطري المفضل، عن أيّ شيء يلمح لي بأنه كان هناك يومًا... لا شيء.
رددت في نفسي بسخرية، وكأنني أوجه خطابًا وجوديًا: "ها نحن نتعلّم، يا عزيزتي... نتعلّم كيف نتظاهر، كيف نتماهى مع الجماعة وانت المرأة المتمردة التي تحتاج الى ترويض مستمر، نتعلم كيف نضحك بصخب في الداخل ونبدو وكأننا في عزاء من الخارج."
وانتظرت...
أردت أن أسمع ما سيقوله الآخرون، أولئك الذين شمّوا الياسمين، والعود، والفانيليا. أردت أن أسمع لأقارن هذا العبث الحسيّ الدي كنت أعيشه أنا، مع الاخرين... انتظرت في صمت، وعيناي مغمضتان، مع ضحكة مكتومة ترتجف على حافة أنفي العليل.
فتحت عيني، وتحسّست وجهي بكسل، كمن يعود من رحلة لم يغادر فيها مقعده. نظرت حولي أراقب الوجوه. بعضها كان ساكنًا كأن شيئًا قد تجلّى، وبعضها بدا مشوشًا كمن نسي ان يغلق عينيه أصلاً.
لم أكن الوحيدة التي لم "تشم شيئًا"، وقد بدأت أرى ملامح التشكيك تتسلل إلى العيون المجاورة. رجال جلسوا بجمود، يتّبعون التعليمات لا إيمانًا بها، بل هروبًا من الحرج. رأيت واحدًا يفتح عينه خلسة، كأنه يبحث عن مخرج طوارئ، وآخر يبدو وكأنّه يراجع فاتورة الكهرباء في رأسه بدل تذكر العطر المفضل.
لا أحد قالها بصوت عالٍ، طبعًا، فالجميع كان يساير خجلا، أو احتراما لذلك الصمت المقدّس الذي يسود عادة خلال لحظات التأمل الجماعي.
أما المدرب، فظل صامتًا للحظة، كمن ينتظر أن يختمر فينا شيء… نوع من "التحول الداخلي" أو "الاتصال العميق بالذات". ثم قال، بصوته الرتيب الذي لا يحمل أي أثر للتشويق أو الإدهاش:
"هل لاحظتم كيف أن مجرد تخيّل الرائحة يحفّز فينا مشاعر عميقة؟"
لكنني لم أشعر بشيء عميق سوى محاولة عابرة لقمع الضحك.
كنت أقول بيني وبين نفسي:
"سيدي، تخيّلت صورة عطري المفضل، لكن أنفي اعتذر"
كنت هناك جالسة أنتظر بصمت ما سيقوله الآخرون…
وبالفعل، بدأ بعض المشاركين يتحدثون، منهم من تفاعل مع التجربة بجدية، وتحدث عنها ببعض الكلمات الجميلة. كان هناك، بين الحكايات، شيء من المبالغة التي يُحسنها البعض حين يُطلب منهم أن "يشاركوا تجربتهم". تلك المبالغة التي نمارسها غالبًا تحت شعار: "لنكُن إيجابيين، وودودين، ومتواضعين "
كانوا يتحدثون بانفعال صادق، أو هكذا يبدو. العيون تلمع أحيانًا، الأصوات ترتجف، ومع ذلك، كنت ألتقط تلك اللحظات الصغيرة التي لا ينتبه لها أحد: نظرة هاربة الى الساعة، تنفّس طويل قبل الكلام، أو يد ترتعش قليلاً قبل أن تستقرّ.
وكلما تحمسوا أكثر، شعرت أنني أنسحب خطوة إلى الوراء. ربما كنت أُحب أن أُصدّق، أن أندمج، لكن شيئًا ما في داخلي كان يُعيد ترتيب الجمل، ويُفكّك الكلام…
بدا واضحًا، رغم هالة التأمل المصطنعة، أن زملائي الرجال لم ينسجموا كثيرًا مع هذه الرحلة العطرية التي أراد لها المدرب أن تكون بوابة الى الروح. كان بعضهم يحاول أن يبدو مندمجا، لكنه في الحقيقة كان عالقًا بين "متى ينتهي هذا؟" و"ماذا سأقول إن سألني؟"... لكن بلا رائحة عطر، بلا حنين، بلا دمعة تسيل على الخد.
كنت اراقب كل ذلك، أدوّن بصمت تلك المشاهد الصغيرة التي لا تُكتب في كُتيّبات التنمية الذاتية… لا لأحفظ ما قيل، بل لأتتبّع ما لم يُقل… ما بين السطور، حيث القصص الحقيقية...
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي.
