من وحي الركام
لطالما قيل إن العالم أصبح قرية صغيرة.
لكنني كنت أرى أن العالم أصبح مسرحًا افتراضيًا، حيث يجلس الجميع أمام شاشة ضخمة، يحدقون في الضوء الباهت المنبعث منها.
المتفرجون يراقبون المشهد، لكنهم غير واثقين من أن العيون التي تحدق عبر الشاشة هي أعينهم أم أعين أخرى، متوارية في الظل، تحصي كل خطوة، تسجل كل همسة، تراقب بصمت، كما لو كانوا أبطالًا في رواية جورج أوريل، محاصرين في عالم تحكمه الشاشات.
على هذا المسرح، يركض الجميع في كل اتجاه، كأنهم يبحثون عن نصوصهم التي اضاعوها في خضم انشغالهم بالمكياج والملابس التافهة التي لا تكاد تستر عوراتهم، ثم ما يلبثون يرددون حوارات ارتجالية لا يمت بعضها لبعض بصلة سوى أنها تقال في ذات المكان. حوارات عن نجاحات مصطنعة، قضايا افتراضية، يوميات لا وجود لها... كأننا نعيش في إحدى مسرحيات شكسبير، حيث الفوضى تملأ الخشبة، والأقنعة تتبدل بسرعة البرق، بينما الجمهور يراقب المشهد دون أن يدري إن كان يؤدي أدوارا فيها أم أنه مجرد شاهد على العبث.
في هذا المسرح، كلنا نجلس على مقاعدنا، متأرجحين بين السأم والتشبث بفرجة لا يرجى منها فائدة سوى مجاراة الوقت قبل ان يقطعنا اربا على مقصلة الزمن. ربما أصبحنا نشعر أن الحياة خارج هذا المسرح غير ممكنة، أو لعلنا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع بعضنا البعض خارج جدرانه الافتراضية...
وفي يوم من الأيام، حدث ما لم يكن في الحسبان...
حدث انفجاركبير...
ليس ذلك الانفجار الذي لم نره، والذي حدثنا ستيفن هوكينج عنه بصوته المتردد وهو يروي بداية الكون دون ان يدلنا عمن كان وراءه، وكأنه انفجار يتيم لا شيء قبله و لا أب عنه يسأل؛ بل كان انفجارًا من نوع آخر، كان انفجارًا صامتًا، برقًا بلا صوت، موجة اهتزت في العدم، اجتاحت المسرح الافتراضي دون سابق إنذار، انفجار هز كل شيء حتى الشاشة الكبيرة، ارتعشت للحظة، كأنها تردد صداه...
وفجأة، تعالت الصيحات من خلف الجدران الافتراضية، ترددت أصداء المدافع، وتداخلت آهات الجرحى والثكالى مع بكاء الأطفال. دخل بعضهم إلى المسرح مرعوبين، يعلو وجوههم البريئة التراب ويحيط بهم الموت من كل جهة، رددوا بضع كلمات ثم اختفوا فجأة وكأنهم سراب، وكأنهم مجرد ظلال مرت في الفراغ.
شيئا فشيئا، بدأ المسرح يمتلئ بالدماء، بالصراخ، بالركام. لا تكاد ترى ركنا فيه الا ويعلوه الدخان، ويحيط به الخراب...
ورغم ذلك، استمر الممثلون في تكرار نصوصهم المرتجلة، غير آبهين بما يحدث حولهم. ظل المتفرجون في أماكنهم، مشدوهين، عاجزين عن الحراك. بعضهم هبّ صارخا، رافضا مواصلة الفرجة، لكن حراس المسرح كانوا لهم بالمرصاد. كان هناك من يغمض عينيه، يضع يديه على أذنيه، يهرب من الحقيقة التي تسللت إلى عالمه الافتراضي. وهناك من غادر بلا رجعة، وآخرون ظلوا متجمدين في أماكنهم، ينهشهم الألم، لكن لا هم استطاعوا المغادرة ولاهم استطاعوا الصعود الى الخشبة.
بحثت عن الأبطال الذين كنت أظنهم يوما خارقين لعلهم يضفون بعض المعنى على هذه الفوضى، عن الأصوات التي لطالما هتفت بالحب، بالسلام، بالعدل، عن الوجوه التي طالما حثت على الشجاعة، والمبادرة والالتزام... فوجدت بعضهم جالسا على المقعد بجواري، صامتا، جامدا، لا تكاد ترى او تسمع له حسا. رأيت بعضهم فوق المسرح يواصل تلاوة سطوره كما لو لم يتغير شيء حوله، بل شاهدت بعضهم يحاول ان يطرد من علت أصوات ألمهم على صوته، كأن صرخات الألم تشوه مشهده المثالي.
وفجأة، وسط هذه الفوضى العارمة، وسط الركام الذي التهم المسرح، رأيتها... لم تكن مجرد شخصية تعبر المشهد، بل كانت النور الذي اخترق الظلام.
لم تكن تملك درعًا، لكنها كانت أقوى وأشجع من كل أولئك الذين تحدثوا أوصمتوا. كلما ارتفعت أصوات المدافع، كانت ترفع صوتها أكثر.
في وسط المشهد، ظهرت الحقيقة شامخة بكل بساطتها، بلا صخب ولا شعارات...
لم تعد بحاجة إلى صوت، ولا إلى سيف لتعرف عن نفسها...
كان كل بريق يخبو، وكل زيف بدأ ينكشف، إلا نورها كان ساطعا يعلو عل كل الدخان...
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي.
