صفحة في رواية قبل الأوان
شيء في عقلي
لم تكن البرمجة، بالنسبة لي، مجرد كتابة رموز وأوامر على شاشة باردة.
بل كان عالمي الصغير، حيث أعمل فيه على تفكيك العالم الواقعي إلى أجزاء صغيرة يمكن تحليلها وإعادة بنائها. كنت أبني عوالم افتراضية وأتحكم بتفاصيلها الدقيقة، أنظم الفوضى بأصابع رشيقة، وأحول مجرد أفكار إلى برامج حية تتنفس وتغيّر العالم من حولي.
جون روميرو، مصمم ومبرمج ألعاب الفيديو، الأمريكي الشهير، قال: "قد لا تعتقد أن المبرمجين فنانون، ولكن البرمجة مهنة شديدة الإبداع. إنها إبداع قائم على المنطق"
أما بالنسبة لي، فقد كانت تمنحني الاحساس بالقوة والسيطرة. كمبرمجة معلوماتية، كنت أؤمن أن كل مشكلة، مهما بلغ تعقيدها، تحمل في طياتها حلاً منطقياً ينتظر أن يُكتشف. كل خوارزمية كانت رحلة، كل مشروع كان مغامرة، كل مشكلة كانت عبارة عن لغز ينتظر من يحله.
.....
مع مرور الأيام، بدأت الفوضى تزحف بهدوء على تفاصيل حياتي اليومية بما فيها البرامج.
في البداية، بدأت رسائل البريد الإلكتروني تتراكم، تنبيهات صغيرة على الشاشة تتجاهلها عيناي المتعبتان، المواعيد تداخلت بطريقة أربكت جدول أعمالي، وأخطاء بسيطة كانت تتكاثر كالفطريات في البرامج التي كنت أظنها محكمة، ومهام بدأت تنزلق من بين أصابعي، كحبات رمل لا أستطيع الإمساك بها.
صارت شاشة جهازي، التي طالما كانت لوحة فنية مرتبة، مليئة بأيقونات عشوائية ورسائل تذكير عاجلة. وكأنها أصبحت مرآة تعكس فوضى داخلية تتسلل بصمت الى حياتي العملية. البرمجة، التي كانت بالنسبة لي عالمًا من النظام والدقة، تحولت تدريجيًا إلى انعكاس دقيق لقلق يومي، لتراكم المهام، ولإحساس غامض بأن السيطرة تنفلت من بين يديّ.
وفي احدى الأيام، اقترح عليّ زميلي الشاب شيئًا جديدًا. دفع حاسوبه نحوي قائلا وكله حماسة:
"جربي " AIWe "، إنه أكثر من مجرد تطبيق...يمكنك أن تسأليه عن أي شيء، تتحدثين اليه عن أي مشكلة وسيرشدك الى الحل بسرعة فائقة، سيرتب حياتك، وسيتعلم منك وستشعرين وكأنك تتحدثين إلى نسخة أخرى منك."
لم أكن مرتاحة للفكرة. كنت من الجيل الذي يكتب البرامج سطرًا بسطر، وكل شيء كان يجب أن يُفهم أولًا، أن يُفكك، ثم يُعاد تركيبه من جديد. ومع ذلك، كان هناك شيء داخلي لا يتجاهل ما يحدث. فضولي كان يزداد يومًا بعد يوم، وأنا التي لا تحب أن يفوتها شيء، خاصة في مجال التكنولوجيا الذي يتغير بسرعة فائقة. كنت أشعر أنني، رغم مقاومتي، أنجذب رويدًا رويدًا إلى هذا العالم الجديد، كأن شيئًا ما في داخلي يريد أن يواكب، أن يفهم، وربما أن يشارك في تشكيل هذا المستقبل.
وفي يوم من الأيام التي كنت فيها، بالكاد أستطيع التنفس من كثرة التوتر، وخلال استراحة الغداء، حملت التطبيق على الحاسوب، وهاتفي الشخصي، وربطته بساعتي الذكية، مع إعدادات مخصصة تتيح له "التعلم السريع من السياق الشخصي". كان الأمر سهلا وسريعا.
...
في البداية، كان كل شيء أشبه بالسحر: ساعدني التطبيق على كتابة و تحليل البرامج المعقدة، اقترح علي حلولا للأخطاء الدقيقة، أعد مسودات الرسائل والتقارير بأسلوب مهني أنيق...
أحسست وكأنني أمتلك مساعداً مثالياً، لا يكل ولا يمل.
ومع مرور الأيام... صار يشبهني أكثر مما توقعت.
أحيانًا كنت أبتسم وأنا أرى ملاحظاته في التنبيهات التي تظهر على شاشة ساعتي، كأنها أفكار انتزعت من عقلي ...
...
لكن شيئا غريبا بدأ يحدث...
في إحدى الأمسيات الهادئة، بينما كنت أسأله عن برنامج غذائي متوازن وعملي يمكنني أن أتبعه يتماشى مع جدول مشاغلي اليومية... فاجأني بما يلي:
"تنهضين في الساعة السادسة صباحًا، تشربين كوبًا من الماء، ثم تتوجهين للصلاة. بعد ذلك، تستلقين لدقائق قليلة، ثم تنهضين من جديد لتتناولي إفطارك: بيضًا مسلوقًا مع فنجان قهوة دافئة، ترافقها عود قرفة وقطعة من الشوكولاتة."
شعرت بالارتباك للحظة: هل أصبحت مكشوفة للتطبيق الى هذا الحد؟
لم يسبق أن حدثته عن موعد نهوضي من الفراش، ولم أخبره عن حبي للقهوة مع أعواد القرفة...
تجاهلت الأمر وقلت في نفسي ربما ذكرت ذلك في احدى محادثاتي معه ونسيت، وهو يتعلم من السياق الشخصي لكل مستعمل.
...
في أحد اجتماعات العمل، بينما كنت أبحث عن الكلمات المناسبة للرد على اقتراح مديري حول مشروع جديد، فجأة، خرج صوتي، من ساعتي الذكية:
"أعتقد أن هذه الفكرة قابلة للتنفيذ مع بعض التعديلات الأمنية"
كان الصوت صوتي. النبرة نبرتي. حتى الوقفات الصغيرة بين الكلمات التي كنت اتميز بها كانت في كلامي.
تجمدت في مكاني.
كل العيون التفتت نحوي والفضول يطل منها.
ظنوا أنني من تحدث.
وأنا لم أفتح فمي.
...
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي

