صفحة في رواية قبل الأوان
معارك صغيرة
ذلك الصباح، وصلت متأخرة بنحو ساعة إلى العمل.
لم تكن هذه عادتها، لكنها لم تعد كما كانت.
أصبح النهوض من السرير معركة يومية، لا فقط مع النوم، بل مع ثقل لا مرئي يجثم على صدرها منذ شهور. هموم كثيرة تتنازعها: هم أمة تنزف بين فكي التفاهة والحروب، هم مجتمع تفتك به الأزمات، هم علاقات تصدأ كما يصدأ الحديد، وهم عائلة صغيرة، تحاول أن تحميها من شظايا الحياة. مشاعر متداخلة ومتناقضة، تسرق منها أحيانا الحماسة المعهودة فيها.
لكنها هذا الصباح انتصرت، ولو بشكل جزئي… على الأقل، غسلت وجهها بالماء البارد، وأعدت قهوتها اللذيذة وشربتها ببطء وامتنان لكل النعم التي رزقها الله عز وجل...
ثم توجهت الى العمل.
أوقفت سيارتها في المرآب ببطء. حملت حقيبتها الصغيرة، أغلقت الباب خلفها ببطئ، ثم حيّت الحارس بابتسامة متكلفة. سمعته يتمتم بعض الكلمات، لعلها كانت دعاءا لها بيوم طيب، فردّت عليه بإيماءة امتنان متعبة.
عند المدخل، صادفت مديرها المباشر، ألقى عليها التحية ثم سرعان ما نظر إلى ساعته، قبل أن يعيد النظر نحوها. كانت نظرة تحمل رسالة صامتة تومئ إلى تأخرها. لكنها لم تشعر بالذنب. ولم يسرِ في جسدها ذلك الارتباك الذي كان يلازمها كلما شعرت بأنها أخطأت. ثم حدثت نفسها "لماذا يجب أن أشرح، أو أبرر؟ أليس التعب كافيًا بذاته ليكون سببا؟"
دخلت المبنى بخطى ثابتة وهادئة، لكن بداخلها كان هناك حديث صاخب. في المصعد، ضغطت زر الطابق الخامس، ثم أسندت رأسها إلى الجدار. راحت تتأمل صورتها في المرآة. كانت كلما نظرت الى المرآة ترى طفلة صغيرة، تبتسم لها بعفوية، وتلوّح بيدها كما لو كانت تلاعبها بلطف. كانت كل مرة تقف امام مرآة، تقترب منها، لا لتتأكد من مظهرها، بل لتطمئن أن تلك الطفلة ما زالت هناك. في عينيها كانت تلمح براءة لم يسرقها الزمن، كانت المرآة نافذتها إلى عالم خاص، حيث لا أحد يكبر، ولا شيء يتغير.
ثم فجأة قالت لها الطفلة بصوت حنون خافت وهي تنظر الى عينيها مباشرة:
" هل أنت قوية فعلا، أم فقط جيدة في التماسك؟"
نظرت إليها بمكر... ثم ردّت عليها وعيناها تلمعان: "وهل هناك فرق؟"
في الطابق الخامس، خرجت من المصعد بخطى هادئة، تكاد لا تسمع. ثم انعطفت يمينا إلى مكتبها الصغير المتواضع، حيث أشياؤها البسيطة التي باتت تشهد على تحوّلاتها الصامتة. جلست خلف مكتبها، كان جسدها هناك، وروحها تتجوّل في مكان اخر بعيد…
ثم رفعت رأسها نحو النافذة، كانت السماء رمادية ومليئة بالسحب، كأنها تعكس تمامًا ما بداخلها… حيادية، وهادئة، لكن مثقلة.
نظرت إلى الساعة. الوقت يمضي، كما يفعل دوما، غير آبه بما يهدر من أعمارنا.
لو يعلم الوقت أننا نختبئ منه، خلف التفاصيل الصغيرة… خلف المهام، والابتسامات، والمجاملات، والصمت الطويل.
وفجأة، نزعت ساعتها من معصمها بكل حزم، ووضعتها على المكتب. كأنها تقول:"لن أدخل في سباقٍ اليوم، يكفيني أنني هنا. ويكفي أن القلب، رغم كل شيء… ما زال ينبض بالحياة. "
أخرجت من درجها قطعة شوكولاتة صغيرة، فتحتها برقة، ثم أخذت قضمة صغيرة. "أحيانًا، يكون للشوكولاتة تأثير أفضل من كل كتب التحفيز"، فكرت ضاحكة.
ثم نظرت حولها إلى كل تلك الأشياء الصغيرة: كوب القهوة الذي يحمل عبارةً تحفيزية ساخرة، دفتر الملاحظات الذي امتلأ أكثر مما يجب، والنبتة التي تستدير ببطء نحو النافذة، وكأنها تبحث عن شمس دافئة متوارية بالسحاب...
فتحت حاسوبها. الشاشة أضاءت ببرود، فتحت ملف المهام الأسبوعية، فوجدت قائمة مهام طويلة…قالت بصوت خافت، وهي تنظر إلى الشاشة:
"نعم نعم، أعرفك… نفس المهام، نفس الأسماء … حتى هذه المقدمة الناقصة في التقرير العالق مند شهور بين أشخاص كلهم مشغولون بكل شيء الا به، ما زالت هنا منذ الأسبوع الماضي!"
قالتها وهي تبتسم لنفسها، وبدأت تصححه و تعطي الملاحظات، لا حبًا في التصحيح والتعديل، بل لأن التفاصيل الصغيرة تمنحها شعورًا جميلا بالسيطرة.
عندما انتهت من كتابة التقرير، أقفلت ملف المهام. ثم، في لحظة عفوية، فتحت ملفًا فارغًا وكتبت أعلاه:
"رسالة إلى ..."
ترددت فجأة وهي تمرر في ذهنها شريط الأحداث في الشهور الأخيرة. كان الأمر جنونيا، كيف استطاعت النجاة من كل هذا. فها هي ذي تستمتع بالشكولاتة اللذيذة، وما تزال تتمتع بحس الفكاهة التي طالما كانت تضفيه على كل حدث مهما كان صعبا عليها، ومازالت تستطيع رؤية البراءة وهي تنعكس من عينيها في المرآة تخبرها بأن تطمأن...
توقفت بضع لحظات وهي تحدق فى الصفحة البيضاء على الشاشة، كأنها كاتبة محتارة تاهت عنها بنات الأفكار.
ثم أغلقت الملف دون أن تحفظه وهمست: "يجب أن أهدأ، فالأوان لم يحن بعد"
...
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي


