السبت، 21 يونيو 2025

صفحة في رواية قبل الأوان 

معارك صغيرة 

ذلك الصباح، وصلت متأخرة بنحو ساعة إلى العمل.

لم تكن هذه عادتها، لكنها لم تعد كما كانت.

أصبح النهوض من السرير معركة يومية، لا فقط مع النوم، بل مع ثقل لا مرئي يجثم على صدرها منذ شهور. هموم كثيرة تتنازعها: هم أمة تنزف بين فكي التفاهة والحروب، هم مجتمع تفتك به الأزمات، هم علاقات تصدأ كما يصدأ الحديد، وهم عائلة صغيرة، تحاول أن تحميها من شظايا الحياة. مشاعر متداخلة ومتناقضة، تسرق منها أحيانا الحماسة المعهودة فيها.

لكنها هذا الصباح انتصرت، ولو بشكل جزئي… على الأقل، غسلت وجهها بالماء البارد، وأعدت قهوتها اللذيذة وشربتها ببطء وامتنان لكل النعم التي رزقها الله عز وجل...

ثم توجهت الى العمل.

أوقفت سيارتها في المرآب ببطء. حملت حقيبتها الصغيرة، أغلقت الباب خلفها ببطئ، ثم حيّت الحارس بابتسامة متكلفة. سمعته يتمتم بعض الكلمات، لعلها كانت دعاءا لها بيوم طيب، فردّت عليه بإيماءة امتنان متعبة.


عند المدخل، صادفت مديرها المباشر، ألقى عليها التحية ثم سرعان ما نظر إلى ساعته، قبل أن يعيد النظر نحوها. كانت نظرة تحمل رسالة صامتة تومئ إلى تأخرها. لكنها لم تشعر بالذنب. ولم يسرِ في جسدها ذلك الارتباك الذي كان يلازمها كلما شعرت بأنها أخطأت. ثم حدثت نفسها "لماذا يجب أن أشرح، أو أبرر؟ أليس التعب كافيًا بذاته ليكون سببا؟"

دخلت المبنى بخطى ثابتة وهادئة، لكن بداخلها كان هناك حديث صاخب.  في المصعد، ضغطت زر الطابق الخامس، ثم أسندت رأسها إلى الجدار. راحت تتأمل صورتها في المرآة. كانت كلما نظرت الى المرآة ترى طفلة صغيرة، تبتسم لها بعفوية، وتلوّح بيدها كما لو كانت تلاعبها بلطف. كانت كل مرة تقف امام مرآة، تقترب منها، لا لتتأكد من مظهرها، بل لتطمئن أن تلك الطفلة ما زالت هناك. في عينيها كانت تلمح براءة لم يسرقها الزمن، كانت المرآة نافذتها إلى عالم خاص، حيث لا أحد يكبر، ولا شيء يتغير.

ثم فجأة قالت لها الطفلة بصوت حنون خافت وهي تنظر الى عينيها مباشرة:

" هل أنت قوية فعلا، أم فقط جيدة في التماسك؟"

نظرت إليها بمكر... ثم ردّت عليها وعيناها تلمعان: "وهل هناك فرق؟"

في الطابق الخامس، خرجت من المصعد بخطى هادئة، تكاد لا تسمع. ثم انعطفت يمينا إلى مكتبها الصغير المتواضع، حيث أشياؤها البسيطة التي باتت تشهد على تحوّلاتها الصامتة. جلست خلف مكتبها، كان جسدها هناك، وروحها تتجوّل في مكان اخر بعيد…

ثم رفعت رأسها نحو النافذة، كانت السماء رمادية ومليئة بالسحب، كأنها تعكس تمامًا ما بداخلها… حيادية، وهادئة، لكن مثقلة.

نظرت إلى الساعة. الوقت يمضي، كما يفعل دوما، غير آبه بما يهدر من أعمارنا.

لو يعلم الوقت أننا نختبئ منه، خلف التفاصيل الصغيرة… خلف المهام، والابتسامات، والمجاملات، والصمت الطويل.

وفجأة، نزعت ساعتها من معصمها بكل حزم، ووضعتها على المكتب. كأنها تقول:"لن أدخل في سباقٍ اليوم، يكفيني أنني هنا. ويكفي أن القلب، رغم كل شيء… ما زال ينبض بالحياة. "

أخرجت من درجها قطعة شوكولاتة صغيرة، فتحتها برقة، ثم أخذت قضمة صغيرة. "أحيانًا، يكون للشوكولاتة تأثير أفضل من كل كتب التحفيز"، فكرت ضاحكة.

ثم نظرت حولها إلى كل تلك الأشياء الصغيرة: كوب القهوة الذي يحمل عبارةً تحفيزية ساخرة، دفتر الملاحظات الذي امتلأ أكثر مما يجب، والنبتة التي تستدير ببطء نحو النافذة، وكأنها تبحث عن شمس دافئة متوارية بالسحاب...

فتحت حاسوبها. الشاشة أضاءت ببرود، فتحت ملف المهام الأسبوعية، فوجدت قائمة مهام طويلة…قالت بصوت خافت، وهي تنظر إلى الشاشة:

"نعم نعم، أعرفك… نفس المهام، نفس الأسماء … حتى هذه المقدمة الناقصة في التقرير العالق مند شهور بين أشخاص كلهم مشغولون بكل شيء الا به، ما زالت هنا منذ الأسبوع الماضي!"

قالتها وهي تبتسم لنفسها، وبدأت تصححه و تعطي الملاحظات، لا حبًا في التصحيح والتعديل، بل لأن التفاصيل الصغيرة تمنحها شعورًا جميلا بالسيطرة.

عندما انتهت من كتابة التقرير، أقفلت ملف المهام. ثم، في لحظة عفوية، فتحت ملفًا فارغًا وكتبت أعلاه:

 "رسالة إلى ..."

ترددت فجأة وهي تمرر في ذهنها شريط الأحداث في الشهور الأخيرة. كان الأمر جنونيا، كيف استطاعت النجاة من كل هذا. فها هي ذي تستمتع بالشكولاتة اللذيذة، وما تزال تتمتع بحس الفكاهة التي طالما كانت تضفيه على كل حدث مهما كان صعبا عليها، ومازالت تستطيع رؤية البراءة وهي تنعكس من عينيها في المرآة تخبرها بأن تطمأن... 

توقفت بضع لحظات وهي تحدق فى الصفحة البيضاء على الشاشة، كأنها كاتبة محتارة تاهت عنها بنات الأفكار.

ثم أغلقت الملف دون أن تحفظه وهمست: "يجب أن أهدأ، فالأوان لم يحن بعد"

...

ر.خ

                                                                                    

ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي


 

 

الأحد، 15 يونيو 2025

 معاطف غوغول

" كلنا خرجنا من معطف غوغول"  دويستوفسكي

بحكم أنني ولدت وترعرعت في مدينة صغيرة، وبحكم طريقة تربيتي، ونشأتي في عائلة ذات مستوى مادي متوسط، لم أكن أفرّق بين حذاء محلّي الصنع وآخر يحمل اسم علامة تجارية مشهورة. لم أكن أميّز بين معطف فخم وآخر بسيط. بل كثيرا ما كنا نحن من يصمم ملابسنا بأذواقنا الخاصة. فعندما تكون هناك مناسبة خاصة مثلا، كحفل زفاف أو عقيقة أو أعياد دينية، كانت فتيات العائلة تتحولن الى مصممات أزياء، تقترحن التصميمات، وتخترن الأقمشة، وأحيانًا تسافرن إلى مدينة أخرى لاقتنائها، ثم تنطلقن في رحلة البحث عن الخياط المثالي. وكان الأمر في كل مرة كرحلة أحيانا ممتعة ومفرحة، وأحيانا أخرى متعبة ومخيبة للامال، بين محلات الأقمشة، والإكسسوارات، والخياطين. وكان الجميع يشارك في هذه الرحلة. فكان الفستان أو الجلباب أو القفطان يصبح حديث العائلة لأسبوعين أو أكثر، والكل يترقّب "التحفة الفنية".

لكن عند انتقالي إلى العاصمة، اكتشفت واقعًا بدا لي غريبًا في البداية، قبل أن تصيبني عدواه. هناك، لم يعد الأمر يتعلق بلباس يستر الجسد، أويزيّنه في المناسبات، أويعبّر عن شخصيتنا، بل أصبح الأمر مرتبطًا بأشياء أخرى. اكتشفت أن الثياب قد تكسب شخصًا نظرة إعجاب أو تحرمه منها، لا لجماله أو جودة صنعه لكن فقط لأن عليه شعارًا معروفا يمنح صاحبها مكانة اجتماعية. 

شيئًا فشيئًا، بدأت أدخل لهذا العالم وأفهم رموزه.عندما كنت أسافر إلى الخارج وأدخل بعض المتاجر التي تبيع هذه العلامات التجارية، كنت أجد نفسي أحيانا أنظر الى معاطف مصطفة على الشماعات بعناية أقرب إلى التقديس، وأسعارها خيالية. فأحاول أن أبرّر الثمن فلا أجد سوى شعارا صغيرا يميّزها عن معطف يمكن لخيّاطة بسيطة في مدينتنا الصغيرة أن تصنعه، إذا وجدت نفس الخامة من القماش والاكسسوارات. ثم أنظر إلى الزبائن وهم يرمقونها بإعجاب، بسبب رمزٍ صنعه خياط كان في يومٍ من الأيام مجهولًا، قبل أن يتحوّل اسمه إلى أسطورة.

 

حين قرأت لاحقًا القصة القصيرة "المعطف" للكاتب الروسي غوغول، أحسست بما يعنيه أن يمنحك اللباس "وجودًا اجتماعيًا". بطل الرواية، هو أكاكي أكاكيفيتش، موظف بسيط يعمل ناسخًا في أحد الدوائر الحكومية. رجل مهمش لا يلاحظه أحد، محط سخرية واحتقار من زملائه في العمل. وكان يرتدي باستمرار معطفا رثا قديما لا يملك غيره. لكن جاء اليوم الذي وجد نفسه مضطرا لاقتناء معطف جديد لأن القديم لم يعد بالإمكان اصلاحه عند الخياط. ولأن إمكاناته المادية لا تسمح له بحياكة واحد جديد، تقشف مدة من الزمن وتحمل الحرمان من ابسط الاشياء حتى يستطيع أن يوفر ثمنه.  

ومن هنا تبدأ مغامرةٍ جديدة لأكاكي أكاكيفيتش مع المعطف الجديد، والتي تنتهي بموته كمدا بعد حادثة سرقته، ومحاولاته المستميتة لاستعادته دون جدوى! فبعد ان ارتدى معطفه الجديد، فجأة، صار مرئيًا للجميع، مرحّبًا به، مدعوًا لحفلات راقية لم يكن يحلم بها. لا لأن شخصيته تغيّرت، بل لأن معطفه تغيّر. وهنا تكمن المفارقة المريرة. لم يكن احترام الناس له حقيقيًا، فمازال ذلك الموظف البسيط المتواضع الذي يعمل في نفس المنصب منذ زمن طويل، لم يتغير شيء سوى اقتنائه لهذا المعطف. كان احترام الناس انعكاس لشيء خارجي، هش وزائل. وحين سُرق منه معطفه، سُرق معه ما ظنه مكانة وكرامة، فعاد إلى الظل، وعومل بازدراء وقسوة حتى مات بحسرته، وكأن الشخص الذي نال الاحترام لم يكن أكاكي، بل المعطف نفسه.  في الحقيقة، غوغول كان عبقريا في طريقة سرده لدرجة أنك ستنسى البطل وازماته لتركز في المعطف وتفاصيله.

اليوم، عندما أرى على منصات التواصل الاجتماعي كثيرًا من الشباب يلهثون خلف تلك "العلامات الرمزية"، شعارٌ على قميص، رمز على حذاء، اسم على حقيبة، أتذكّر معطف غوغول. هؤلاء يظنون أن هاته الأشياء هي ما تمنحهم قيمة وكأنها قرابين لنيل الاعتراف والقبول. وهم، في ذلك، غير ملامين تمامًا؛ فهم يعيشون في عالم مادي استهلاكي، صار الإنسان فيه لا يُقدر إلا بما يرتدي وما يملك، لا بما يحمل من فكر أو أخلاق أو طيبة. 

لكن، هل يمكن أن نتوقف لحظة ونتأمل؟ أن نسأل أنفسنا: من نحن من دون كل تلك الاشياء المادية التي نملكها؟ من نكون حين لا نملك شيئا سوى ذواتنا العارية من كل زينة؟

لعل الوقت قد حان لنخلع "معاطف غوغول" التي نختبئ خلفها ونتحرر من سلطتها التي تتسلل إلى أرواحنا رويدا رويدا، قبل أن نصبح، مثل أكاكي المسكين، أطيافًا شاحبة تتسكع في ليال المدن الباردة، نبحث عن دفء مفقود... 

 ولكل نفس معطفها الخاص الذي تتوهم فيه الدفء...


 ملاحظة: الصور المعروضة  تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي 

ر.خ