الأحد، 9 نوفمبر 2025

 11 شتنبر 2001

كانت الساعة تقترب من الثانية إلا ربعًا بعد الزوال.

في استوديو انيق في حي حسان بالرباط، كانت ليلى وسارة تسترخيان بعد تناول الغداء الذي قاما بإعداده معًا: سلطة خضراء، شرائح دجاج في الفرن، بطاطا مقلية وتفاحتان. كان ذلك العام عامَ تخرجهما من مدرسة الإحصاء للمهندسين بالرباط .ليلى كانت قد بدأت عملها حديثًا في مؤسسة حكومية، بينما لم تلتحق سارة بعد بأي وظيفة؛ إذ جاءت لتقيم مع ليلى لأسبوع، كي تُنسق بعض الأوراق الخاصة بمتابعة دراستها المعمقة في كندا. كانت تطمح إلى نيل شهادة الدكتوراه.

التقتا عند الظهر في شقة ليلى التي استأجرتها مؤخرًا؛ منزل صغير جدا لكنه جميل ومرتب، مجهز بالضروريات رغم أنها لم تتقاضَ راتبها بعد؛ مازال أمامها أكثر من خمسة شهور لتحصل على راتبها بانتظام. لكن والدها أصر على أن تكتري استوديو قريب من عملها لخوفه عليها. تناولتا الغذاء، ثم في حوالي الواحدة والنصف تمددت ليلى على السرير قليلًا قبل أن تتهيأ للذهاب إلى عملها الذي تبدأه في الثانية والنصف تمامًا.

كانت سارة مازالت جالسة في وضعية استلقاء على الاريكة الوحيدة القريبة من السرير، تمسك في يدها رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي، رواية عن الخلق والموت، عن الوحدة والذنب. كانت تقول إنها قصة مرعبة في ظاهرها، لكنها تلمس شيئًا عميقًا بداخلها؛ شيئًا يشبه الخوف الذي يسكنها منذ مرض والديها اللذين يقطنان في مدينة القصر الكبير. كانت القراءة بالنسبة لها ملجأً وبلسمًا، تهرب إليها لتخفف من ثقل الواقع عليها.

كانت ليلى تحدق في السقف بصمتٍ حالِم. كانت رومانسية بطبعها، ترى في التفاصيل الصغيرة معنى للحياة؛ في ضوء الشمس المتسلل من بين الستائر، في نغمة موسيقى خافتة، أو في رسالة قصيرة من هشام تُبدّل مزاجها ليومٍ كامل. كان هشام زميل دراستها منذ الثانوية، طويل القامة، عريض المنكبين، عيناه خضراوان كلون عيني ليلى الشقراء الشعر. كانا الاثنين قادمين من وزان. في الصيف الماضي عقدا قرانهما بعد التخرج مباشرة، رغم معارضة والدتها التي كانت ترى أنه من عائلة فقيرة، وأن ليلى تستحق الأفضل؛ لكن والدها دافع عنه قائلًا: "إنه مهندس، ولا خوف على مستقبله". قبلت الأم على مضض، واشترطت ألا يتم الزفاف إلا بعد أن يجد هشام عملًا ويكتري بيتًا يليق بابنتها.

قطع رنين هاتفها الموتورولا سكون الغرفة. رفعت ليلى الهاتف مبتسمة، فابتسمت سارة في سرها وقالت مازحة:

"لابد أنه هشام، عريس الغفلة ".

جاء صوت ليلى بلهجتها الشمالية الناعمة:

"الو هشام! كيف حالك؟"

لم يكد الحديث بينهما يبدأ حتى تغيّر صوت ليلى فجأة.

رفعت رأسها وقالت بحدة:

"ماذا تقول؟ هل هذا صحيح؟ وأين رأيت ذلك؟"

فتحت سارة عينيها على صياح ليلى وسألت بقلق: "ماذا هناك؟"

ردّت ليلى وهي تمسك الهاتف بيدين مرتجفتين:

"هشام يقول إن طائرة اصطدمت ببرج التجارة العالمي في نيويورك! الجزيرة تبث الصور الآن!"

سرت قشعريرة في جسد سارة، واعتدلت في جلستها بتوتر. أسرعت ليلى نحو جهاز التلفاز الصغير ذي البطن الكبيرة، كما كانت تسميه مازحة. كان هدية من والدتها التي أعطته لها، علّه يؤنس وحدتها في الرباط. لم تكن تعلم الأم أن ليلى كانت تفضّل أن يؤنسها هشام، الذي لم تسمح له بالدخول إلى شقتها حتى يتم الزفاف المشروط بإيجاد عمل واكتراء شقة مناسبة وتأثيتها.

كانت الساعة تشير إلى الثانية تمامًا بعد الزوال بتوقيت الرباط. قناة الجزيرة تبث مباشرة مشاهد الدخان الكثيف المتصاعد من البرج الأول في نيويورك. لم تمضِ سوى دقائق حتى دوّى صوت المذيع بذهول: "طائرة ثانية تصطدم الآن بالبرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي!"

ارتفعت الصيحات في الشقة الصغيرة، وتبادلت ليلى وسارة النظرات المذهولة. جلستا بصمت تحدقان في الشاشة دون أن تنطقا. لم تعودا متأكدتين إن كان ما تشاهدانه حقيقة أم فيلما هوليوديا. لكن حين بدأت صور الانهيار تملأ الشاشة، أدركتا أن العالم تغيّر في تلك اللحظة.

... 

يتبع