الأحد، 6 أبريل 2025

 وهج السر 

في زمن تتزاحم فيه العناوين البرّاقة، وتُروّج فيه الأفكار السطحية كأنها أسرار منسية، قد يجد المرء نفسه مقحما رغما عنه، في رحلة لاكتشاف الذات، حتى وان كان الزاد قليلا، والأوان لم يحن بعد. فلكل رحلة زاد وميعاد. "وهج السر" ليست قصة عن فيلم أو محاضرة، بل هي خاطرة لقلب يقاوم البريق، ويتمسّك بالنور.

 

كانت تلك المرة الأولى التي أحضر فيها أمسية للتنمية الذاتية. كنت حينها ما أزال شابة صغيرة، يملأها الفضول والحماس لاكتشاف العالم، وتطوير نفسي لأصبح أفضل مما أنا عليه. كنت آمل أن أجد ما يُروي عطشي للمعرفة، معرفة النفس وأسرارها. كنت أبحث عن شيء يتجاوز الروتين، يوقظني من الداخل، ويمنحني مفاتيحا لفهم النفس والحياة.

دخلت القاعة وأنا أحمل في قلبي شعورًا مختلطًا من الترقب والفضول، كان المدرج متوسط الحجم، بدا كأنه لا يتّسع لكل التطلعات التي جاءت تبحث عن معنى، عن خطوات نحو التغيير... كان معظم الحضور من النساء، تلمع عيونهنّ بحماس لافت، فيما جلس بينهنّ عدد لا بأس به من الرجال، يظهر عليهم اهتمام بالغ، كما لو أنهم جاؤوا ليغترفوا من نبع إلهام صافٍ، يروي عطش أرواحهم ويوقظ فيهم أحلامًا نائمة.

على المسرح، ظهر خبير التنمية البشرية. ألقى التحية، ثم بدأ يتحدث، لا كمن يُلقي محاضرة، بل كمن يروي حكاية. كلماتُه انسيابية، يمشي بخطى واثقة، تحمل هدوء من يعرف تمامًا ما يريد قوله. بدا مرتاحًا في حضوره، كان يملأ الأجواء بحماسه، ويُلهب الأرواح بأفكاره، ويحفز الحضور على التفكير والتفاعل. لم يكن مجرد متحدث، بل بدا وكأنه يشارك جزءًا من تجربة عاشها بعمق.

كانت عيناه تتجهان نحونا كما لو كان يخاطب كل واحد منا على حدة، في لحظة خاصة لا تتكرر. وكما هي عادة المدربين المحترفين، بدأ بجذب انتباهنا بأسلوبه الأنيق وطريقته الواثقة في الحركة. تحدث عن أفكار جريئة، عن مفاتيح لتغيير الحياة، عن النجاح والتميز. كان ينتقل من زاوية إلى أخرى، يردد العبارات، ويبدع في استخدام صوته، كما لو كان قائدًا متمرسًا يعرف تمامًا كيف يوقظ الحماسة في نفوس جمهوره. كنا بالكاد نلتقط فكرة، حتى يفاجئنا بأخرى، فتزداد دهشتنا وإعجابنا.

وفجأة، توقّف عن الحديث...

ثم بعد برهة، استرسل بصوت هادئ: "سأريكم الآن لقطات من فيلم غيّر حياة الملايين،" ثم أضاف مبتسمًا: "استعدّوا... قد لا تخرجوا من هنا كما دخلتم."

أُطفئت الأضواء، وبدأت الشاشة تتوهج... أشار إلينا أن نشاهد بتركيز وهدوء، وكأن ما سنراه يحمل في طياته سرا من أسرار الوجود.


 بدأت الشاشة تتوهج بألوان مبهرة، وموسيقى درامية تُمهّد لشيء عظيم. جلسنا جميعًا في صمت كأننا أمام نبوءة قديمة. كان الفيلم يتحدث عن سر عظيم، وكانت الأجواء مشحونة بالإثارة. كان بعض الأشخاص يرتدون أزياءا قديمة، تشبه ملابس فرسان المعبد، وكانت كلمات المتحدثين تحمل سحرًا غريبًا وهم يخبروننا عن سر خفي ظل محفوظًا عبر العصور، لا يعلمه إلا القلة من العلماء، والنبلاء، ورجال الدين، والمال.

"قانون الجذب"، رأيت احدهم على الشاشة يردد ، بنبرة فيها سحرٌ وثقة، كمن يبوح بسر ظلّ محجوبًا عن الناس لقرون.

" قانون الجذب ، ما تفكر فيه... يتحقق. ما تطلبه من الكون... يُستجاب."

"كل ما عليك فعله... هو أن تعرف كيف تطلب."

نظرتُ حولي، فوجدتُ الوجوه مشدوهة، معلّقة في سحر العبارات.

لكن داخلي... كان يهتز.

"هل هذا هو طريق النجاح؟"

"هل الكون يسمع؟"

"هل أقداري رهن أفكاري فقط؟"

ازداد الظلام في القاعة، وتوهّجت الشاشة أكثر، وسمعت صوتا رخيما يهمس:

"اطلب من الكون، والكون سيجيبك."

وهنا... شعرت بشيء غريب.

كأن سكينًا حادا لامست صدري.

كأن شيئًا ما يُنتزع من داخلي.

وتمتم لساني تلقائيًا: "أستغفر الله العظيم"

التفتُّ يمنةً ويسرةً...

كنت أبحث عن وجه يعكس خوفي، عن عين تهرب من الشاشة كما فعلتُ، لكن الوجوه كانت غارقة في النشوة، شاردة كأنها تُحلّق.

شيئًا فشيئًا، كانت ملامح السر تكتمل أمامي:"كل شيء ممكن، فقط إن طلبتَه من الكون."

جملة بسيطة... لكنها كانت كفيلة بإشعال بركان في داخلي.

هل تحوّلت أمنيات البشر إلى أوامر توجه إلى مجهول نرجو منه العطاء؟

في تلك اللحظة، شعرت أنني أبتعد عن عالمي الخاص، عن أشياء نشأت عليها في بيت بسيط، ملؤه دعاء أبي في الفجر، وهمسات والدتي وهي تقول لي: "توكل على الله."

لم يكن "قانون الجذب" سيئًا في ظاهره. على العكس، بدا جميلاً، براقًا، يعِد بالأمل والتغيير والنجاح. لكن ما يخيف في بعض الأفكار، ليس ظاهرها... بل ما تُخفيه في العمق. 

كنت أُراقب الفيلم، وأتأمّل جاذبيته، وأنا أزداد وعيًا بأن كل هذا الجمال يخلو من الجوهر. وكما يقال "ليس كل ما يلمع ذهبًا".

كان كل متحدث في الفيلم يتكلم بثقة من يعرف كل شيء، وكأنّه ينزع الغيب من يد الله، ويمنحه للعقل. كأن الإنسان، إذا أراد، امتلك. وإذا فكّر، خُلق له ما شاء.

لكن… أين الله من كل هذا؟ هل وصل بنا الحال إلى أن نطلب من الكون ما كنّا نرفعه يومًا إلى الله؟

بعد كل هذه السنوات من الدراسة والتحصيل، بعد كل قراءاتنا للقران وختماتنا في رمضان، وقيامنا وصيامنا، ودعواتنا، أصبح الكون هو من يُسأل؟ ما أخيب ظننا، وما أضل سعينا!

انتهى الفيلم، لكن صراعي الداخلي لم ينتهِ.

صوت المعلّق ما يزال يتردد في ذهني، يختلط بصوت أمي رحمها الله، وهي تقول بحزمها المعتاد:

"كاين شي قراية كتعمي"

ومعناه: "هناك من المعرفة ما يعمي البصيرة".

خرجتُ من القاعة ببطء.

كان الهواء خارج القاعة باردًا، ومنعشًا، وكأنه يحاول أن يغسل عني كل ما علق بي من أفكار ملوثة.

أخذت نفسا عميقا، وفي تلك اللحظة، شعرت بشيء من السكينة...

بعد لحظات، بدأت أشعرأنني لم أخرج خالية الوفاض رغم كل ما شاهدت على الشاشة ...

بل خرجت بفهم أعمق لما أؤمن به، ولما لا يشبهني.

...

ر.خ

ملاحظة: الصور المعروضة  تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي.