معاطف غوغول
" كلنا خرجنا من معطف غوغول" دويستوفسكي
بحكم أنني ولدت وترعرعت في مدينة صغيرة، وبحكم طريقة تربيتي، ونشأتي في عائلة ذات مستوى مادي متوسط، لم أكن أفرّق بين حذاء محلّي الصنع وآخر يحمل اسم علامة تجارية مشهورة. لم أكن أميّز بين معطف فخم وآخر بسيط. بل كثيرا ما كنا نحن من يصمم ملابسنا بأذواقنا الخاصة. فعندما تكون هناك مناسبة خاصة مثلا، كحفل زفاف أو عقيقة أو أعياد دينية، كانت فتيات العائلة تتحولن الى مصممات أزياء، تقترحن التصميمات، وتخترن الأقمشة، وأحيانًا تسافرن إلى مدينة أخرى لاقتنائها، ثم تنطلقن في رحلة البحث عن الخياط المثالي. وكان الأمر في كل مرة كرحلة أحيانا ممتعة ومفرحة، وأحيانا أخرى متعبة ومخيبة للامال، بين محلات الأقمشة، والإكسسوارات، والخياطين. وكان الجميع يشارك في هذه الرحلة. فكان الفستان أو الجلباب أو القفطان يصبح حديث العائلة لأسبوعين أو أكثر، والكل يترقّب "التحفة الفنية".
لكن عند انتقالي إلى العاصمة، اكتشفت واقعًا بدا لي غريبًا في البداية، قبل أن تصيبني عدواه. هناك، لم يعد الأمر يتعلق بلباس يستر الجسد، أويزيّنه في المناسبات، أويعبّر عن شخصيتنا، بل أصبح الأمر مرتبطًا بأشياء أخرى. اكتشفت أن الثياب قد تكسب شخصًا نظرة إعجاب أو تحرمه منها، لا لجماله أو جودة صنعه لكن فقط لأن عليه شعارًا معروفا يمنح صاحبها مكانة اجتماعية.
شيئًا فشيئًا، بدأت أدخل لهذا العالم وأفهم رموزه.عندما كنت أسافر إلى الخارج وأدخل بعض المتاجر التي تبيع هذه العلامات التجارية، كنت أجد نفسي أحيانا أنظر الى معاطف مصطفة على الشماعات بعناية أقرب إلى التقديس، وأسعارها خيالية. فأحاول أن أبرّر الثمن فلا أجد سوى شعارا صغيرا يميّزها عن معطف يمكن لخيّاطة بسيطة في مدينتنا الصغيرة أن تصنعه، إذا وجدت نفس الخامة من القماش والاكسسوارات. ثم أنظر إلى الزبائن وهم يرمقونها بإعجاب، بسبب رمزٍ صنعه خياط كان في يومٍ من الأيام مجهولًا، قبل أن يتحوّل اسمه إلى أسطورة.
حين قرأت لاحقًا القصة القصيرة "المعطف" للكاتب الروسي غوغول، أحسست بما يعنيه أن يمنحك اللباس "وجودًا اجتماعيًا". بطل الرواية، هو أكاكي أكاكيفيتش، موظف بسيط يعمل ناسخًا في أحد الدوائر الحكومية. رجل مهمش لا يلاحظه أحد، محط سخرية واحتقار من زملائه في العمل. وكان يرتدي باستمرار معطفا رثا قديما لا يملك غيره. لكن جاء اليوم الذي وجد نفسه مضطرا لاقتناء معطف جديد لأن القديم لم يعد بالإمكان اصلاحه عند الخياط. ولأن إمكاناته المادية لا تسمح له بحياكة واحد جديد، تقشف مدة من الزمن وتحمل الحرمان من ابسط الاشياء حتى يستطيع أن يوفر ثمنه.
ومن هنا تبدأ مغامرةٍ جديدة لأكاكي أكاكيفيتش مع المعطف الجديد، والتي تنتهي بموته كمدا بعد حادثة سرقته، ومحاولاته المستميتة لاستعادته دون جدوى! فبعد ان ارتدى معطفه الجديد، فجأة، صار مرئيًا للجميع، مرحّبًا به، مدعوًا لحفلات راقية لم يكن يحلم بها. لا لأن شخصيته تغيّرت، بل لأن معطفه تغيّر. وهنا تكمن المفارقة المريرة. لم يكن احترام الناس له حقيقيًا، فمازال ذلك الموظف البسيط المتواضع الذي يعمل في نفس المنصب منذ زمن طويل، لم يتغير شيء سوى اقتنائه لهذا المعطف. كان احترام الناس انعكاس لشيء خارجي، هش وزائل. وحين سُرق منه معطفه، سُرق معه ما ظنه مكانة وكرامة، فعاد إلى الظل، وعومل بازدراء وقسوة حتى مات بحسرته، وكأن الشخص الذي نال الاحترام لم يكن أكاكي، بل المعطف نفسه. في الحقيقة، غوغول كان عبقريا في طريقة سرده لدرجة أنك ستنسى البطل وازماته لتركز في المعطف وتفاصيله.
اليوم، عندما أرى على منصات التواصل الاجتماعي كثيرًا من الشباب يلهثون خلف تلك "العلامات الرمزية"، شعارٌ على قميص، رمز على حذاء، اسم على حقيبة، أتذكّر معطف غوغول. هؤلاء يظنون أن هاته الأشياء هي ما تمنحهم قيمة وكأنها قرابين لنيل الاعتراف والقبول. وهم، في ذلك، غير ملامين تمامًا؛ فهم يعيشون في عالم مادي استهلاكي، صار الإنسان فيه لا يُقدر إلا بما يرتدي وما يملك، لا بما يحمل من فكر أو أخلاق أو طيبة.
لكن، هل يمكن أن نتوقف لحظة ونتأمل؟ أن نسأل أنفسنا: من نحن من دون كل تلك الاشياء المادية التي نملكها؟ من نكون حين لا نملك شيئا سوى ذواتنا العارية من كل زينة؟
لعل الوقت قد حان لنخلع "معاطف غوغول" التي نختبئ خلفها ونتحرر من سلطتها التي تتسلل إلى أرواحنا رويدا رويدا، قبل أن نصبح، مثل أكاكي المسكين، أطيافًا شاحبة تتسكع في ليال المدن الباردة، نبحث عن دفء مفقود...
ولكل نفس معطفها الخاص الذي تتوهم فيه الدفء...
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي
ر.خ

