ناي ومقلاع

قرية "الكِيفَانْ"، جبال " بَنِي جرْفَطْ "، شمال المغرب، 1516م

جلس عبدُ الله، الراعي الفَتِيُّ ذو الخمسة عشر عاماً، على ربوةٍ صخرية يراقب أغنامه وهي تنتشر بين شجيرات البلوط والإكليل الجبلي. كان يحمل ملامح أندلسية ورثها عن أمّه فاطمة التي نزحت من إشبيلية قبيل سقوط غرناطة عام 1496م: بشرة بيضاء تميل الى الحمرة عند الخدين، شعر داكن أملس ينزل على الجبين، وعينان سوداوان حادتان. قُرى "بني جرفط" نفسها تشبه الأندلس في سحرها: مراعي واسعة، وهواء ندي، وجبال شامخة، ووديان هادرة. في هذه الربوع، وجد فيها بعض من المسلمين النازحين من الاندلس ملاذهم الامن.


ارتدى عبد الله "القشّابة" الصوفية، ووضع على رأسه "الشاشية" المصنوعة من ليف الدوم، وبجواره "القِراب" الجلدي وفيه شيء من الخبز والماء. رفع نايه إلى شفتيه، فانساب منه لحنٌ حزين يشبه ترانيم الإشبيليات أيام التنصير القسري والتهجير. كانت الكلمات القديمة تتردّد في ذهنه:

" تِيكْ شْبِيلَة

تِيكْ وْلِيوْلَة

مَا قْتْلُونِي

مَا حْيَاوْنِي

غِيرِ الْكَاسْ اللِّي سْقَاوْنِي "

قبل طلوع الشمس، يخرج الفتى للمرعى، ويعود قبيل الغروب الى المنزل مع أغنامه. ثم يقصد الكُتَّاب المجاور للمسجد حيث يتلو القرآن مع الفقيه " مُحَمَّد العَرْبِي " وبعض من شباب القرية بعد صلاة العشاء.

توقف عن العزف فجأة وبدأ يفكر فيما دار الأمس في المسجد بين والده عبد السلام وفقيه القرية "محمد العربي" وبعض أعيانها.  تذكّر الاسم الذي تكرر كثيرا: " بِيرو مِينِيزْش ". ذلك الخائن الذي تنصّر ثم صارعوناً للبرتغاليين المحتلّين لمدينة أصيلة الساحلية. قال أحد الحاضرين أن البرتغاليين يستعدّون، لحملةٍ جديدة بقيادة القائد البرتغالي " مانويل دي أوليفيرا "، الذي اشتهر بقسوته.

"بيرو" من أبناء القبيلة، كان معروفاً بطبعه العنيف وحبه للمال والسلطة. هذا الخائن طلب منهم إتاوة، كما فعل مع بعض القرى الأخرى مثل "لهرة" و"الصخرة" وغيرها. تلك القرى التي قاومت البرتغال بكل قوة، لكن هذا الخائن كان سبباً في نشر الفوضى وإشاعة الفساد .

أحد الأعيان نصح بدفعها تفادياً لسفك الدماء، غير أن آخرين كانوا يصرون على المواجهة، خصوصاً بعدما بلغهم أن القوم لا يكتفون بهذا، بل يأخذون النساء أحياناً والأطفال عبيداً إلى حصونهم للسخرة.

بينما هو شارد الذهن، سمع صوت أخيه يحيى ذو العشر سنوات، يناديه من بعيد وهو يركض نحوه، ويصيح بأعلى صوته: «عبد الله، والدُنا يأمرك أن تجمع القطيع وتعود حالا!"

امتثل للأوامر فورا، فهو يعلم ان اباه لا يمكن ان يطلب منه شيئا مماثلا الا إذا كان هناك خطب. وعند وصوله رأى أمّه وأخواته مارية ونادية وصافية، يحملن المتاع على ظهور البغال. قال والده بصوت حازم:

"خذ أمك وإخوتك إلى قرية " بُوهانِيِ "، وابقوا هناك مع خالك. أمامنا أيام ثقال ونحتاج إلى الاستعداد لها".  لم يستطع مناقشته؛ فعندما يقرر والده أمراً لا مجال للنقاش.

قاد عبدُ الله القافلة الصغيرة، ومعه مجموعات اخرى من النساء والأطفال النازحين. وصلوا قبل العصر، فاستقبلهم خاله بكل ترحاب.

بعد أخذ قسط من الراحة، اقترب عبد الله من أمّه قائلاً:

"أمي... أستأذنك للعودة."

ارتجف صوتها من شدّة الخوف:

ـ "لا يا عبد الله! لقد عشتُ ما يكفي من الفقدً والألم. أنت أكبر اخوتك ونحن نحتاج اليك هنا."

قال عبد الله بحزم:

ـ "أمي… أتذكرين حياتك في الاندلس؟ لقد رأيتِ بأم عينيك الإسبان يقتلون الناس ويُهَجِّرُونهُمْ بغير رحمة، وعند النزوح، رأيتِ الجوع والعطش والأمواج وهي تبتلع الأحبّة واحداً تلو الاخرً "

انكمش وجهها، ثم قالت بصوتٍ حزين:

ـ "وكيف أنساها؟ صرخات أمي وأخوتي… السفينة المتهالكة… ومن بقي؟ لا أحد. كلّهم ذهبوا إلا خالك عبد الرحمان وبعض من ابنائه."

أمسك عبدُ الله بيديها وقال بنبرةٍ حنونة:

"في هذه الأرض وجدتم رجالاً طيبين، ومنهم جدّي رحمه الله. فتحوا لكم البيوت، اووكم وأطعموكم. فأصبحتم منهم."

" إنّ الناس الذين رموكم في البحر بالأمس لا يختلفون عمن يطاردوننا اليوم: بالأمس الإسبان، واليوم البرتغال، وغداً سيأتي غيرهم. إن لم نقاوم الان، سنظل نهرب من أرض إلى أرض ومن خوف إلى خوف … حتى لا يبقى لنا مكان."

كأنّ كلماته اخترقت قلبها. ارتعشت شفتاها، ثم وضعت يدها على رأسه وقالت وهي تبكي: "اذهب يا بني. والله ما أردتُ لك القتال، لكنني أيضاً لا أريد أن تعيش ذليلاً أو مشرداً. اذهب… في رعاية الله وحفظه…."

كانت أمه وخاله عبد الرحمان وابناؤه، الناجون الوحيدون من عائلة " مَرْصُو"، عند النزوح من الاندلس قبل سنوات. تأثر خاله بكلماته، فأمر أولاده الاشداء بمرافقته، وجهّزهم بأسلحة بسيطة؛ لكن عزيمتهم كانت أكبر من عدّتهم.

وصل الشبان مشارف القرية قبيل المغرب. أشار عبد الله إليهم، أن يختبئوا خلف الأشجار الكثيفة بعد أن التقطت أذناه حركة مريبة. بينما تقدّم هو ليتفقد المكان. وفجأة سمع صوتًا يعرف صاحبه؛ قال في نفسه " عَبّاس قْراع الراس ". كان يتحدث مع رجل ضخم الجثة، حادّ الملامح، يرتدي لباسًا عسكريًا ويناديه باسم " بِيرو ". سمعه يقول له إنّ أهل القرية جمعوا ستين رجلًا لمواجهتهم وسيلتحق بهم آخرون من القرى المجاورة.

فهم عبد الله أنه جاسوس يتعاون مع الخائن. خطرت له فكرة خاطفة؛ تناول مقلاعه الذي يصطاد به أحياناً ويحمله مثل نايه، وأطلق منه حجراً أصاب به عين "بيرو" اليمنى فراح يصرخ ألماً ثم امتطى فرسه وفر هاربا.  أما الجاسوس فقد تسمر في مكانه من هول الصدمة، فصاح عبد الله بالشبان، فانقضّوا عليه وحملوه الى القرية لينظروا في أمره.

وهكذا بدأت الشرارة الأولى لمقاومةٍ لم يكن الراعي الفتى، الذي طالما حلم بالالتحاق بجامعة القرويين بفاس، يتوقع أن يكون في قلبها. لكنّ الأرض، كما علّمه والده، لا يحميها إلا أبناؤها.

... 

 ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي 

 

ر.خ