قبل سنوات، حين أحكمت جائحة كورونا قبضتها على العالم وأغلقت أبواب البيوت، ومنعت الناس من الاجتماع والسفر، راحت الأرواح تبحث عن نوافذ تتسلّل منها إلى شيء يشبه بعضا من الحياة الاجتماعية التي اعتادوا عليها. كانت الشوارع خاوية إلا من عابرين يختبئون خلف أقنعتهم، فيما كان الإنترنت يعجّ بأرواحٍ تهرب من ضيق الغرف إلى اتساع الفضاء الافتراضي. وفي ذلك الفضاء انضممت إلى منتدى التوستماسترز؛ مجتمع صغير جمعته رغبة مشتركة في التعلّم والتطوّر والتعارف بين الثقافات. كان أفراده يلتقون حول فنّ الخطابة باللغة الإنجليزية، علّها تزيح شيئًا من الملل، وتعوّض الفتور في التواصل، وتصقل مهارات أصابها الجمود.
بدأت أكتب الخطابات بالإنجليزية وأتمرّن على إلقائها، فوجدت أنّ كل محاولة للخطابة أمام الآخرين تحوّلت إلى غربلة داخلية لأفكاري. فكلما اخترتُ موضوعًا وغصتُ في البحث، اكتشفتُ أمورًا جديدة لم أكن أعلمها، وبدأت تتكوّن في داخلي رؤى أكثر عمقًا ودقة. ما كان منها متينًا برز واتضح، وما كان هشًّا تهاوى… تمامًا كما تهاوت آنذاك أوهامُ القوة لدى البشرية جمعاء.
وحين طُلب مني في إحدى المرات إعداد عرضٍ يقوم على البحث والتحليل، قررتُ أن أتناول سؤالًا قديمًا ظلّ يرافقني لسنوات:
هل يمكن حقًا اختزال حاجات الإنسان في هرم؟
ذلك الهرم المنسوب إلى "ماسلو"، الذي يفترض أن الإنسان لا يبلغ قمّته إلا بعد أن تُشبَع حاجاته البدائية. غير أن في جعبتي كانت هناك رواياتٍ كثيرة ـ من التاريخ ومن الواقع ـ تشهد بأن البشر يضحّون أحيانا بالأمان من أجل الكرامة، ويقدّمون الحرية على الخبز، ويلاحقون معنًى أسمى حتى وإن لم تُستكمل ضروريات الحياة. فكيف يمكن إذًا للروح البشرية أن تُحصر داخل طبقاتٍ مغلقة وحتمية؟
هذا التناقض دفعني إلى فتح كتاب ماسلو "الدافعية والشخصية" وهو الذي يشرح فيه بالتفصيل نظريته حول الحاجات. أخذتُ أتصفّح صفحاته كما لو كنتُ مكتشِفةً تنقّب في مخطوطةٍ فرعونية، بحثًا عن مفتاحٍ للهرم، أو شِفرةٍ تفكّ ألغازَه. لكنني خرجتُ بما هو أكثر من ذلك؛ خرجتُ بقصةٍ جديدة لم أكن أتوقعها.
اكتشفتُ أولًا أن ماسلو لم يذكر الهرم قط في كتابه. لم يرسمه، ولم يلمّح حتى إلى ضرورة تمثيل الحاجات في شكل مثلّثٍ متدرّج. بل كان يرى أن الحاجات قد تُشبَع جزئيًا، وأن الإنسان قد يقفز إلى مستوى أعلى قبل أن يستوفي ما دونه، وأن النفس قادرة على الارتقاء حتى حين يظلّ شيء من الأرض يشدّها. أو هذا على الأقل ما فهمته من بعض الصفحات التي قرأتها عن نظريته. ثم إن ماسلو نفسه، في مرحلة لاحقة، أضاف مستوى جديدًا لم يرد في النسخة الأولى من كتابه وهو: "تجاوز الذات"، تلك اللحظة التي يتحوّل فيها الإنسان إلى جزء من معنى أوسع، من فكرة تتخطى حدود جسده ورغباته.
وكلما تعمّقتُ في البحث، ازداد يقيني بأن ذلك الهرم الذي نحفظه جميعًا لا ينتمي إلى ماسلو إلا بالاسم. إلى أن وصلت إلى ورقة بحثية نُشرت في مارس 2019 في Academy of Management Journal، حيث قام Todd Bridgman وStephen Cummings وJohn Ballard، ثلاثة علماء نفس أمريكيين، بتتبع الأصول الحقيقية للهرم، وحملت كعنوان سؤالًا بدا لي كأنه يكمّل رحلة البحث التي بدأتها: من بنى هرم ماسلو؟
"Who Built Maslow’s Pyramid?"
وفيها كشف هؤلاء الباحثين أن الهرم كما نعرفه اليوم لم يُبنَ بيد ماسلو، بل بيدٍ أخرى لا نكاد نسمع بها: يد عالم نفس استشاري يُدعى "تشارلز ماكدرمد"، قدّمه لأول مرة سنة 1960 في مقال عن كيفية تحفيز الموظفين من أجل الزيادة في الإنتاجية. لم يكن ذلك التمثيل إلا قراءة جديدة لفكرة ماسلو الأصلية. صورةٌ هندسية بسيطة حلّت مكان رؤية إنسانية واسعة. وحسب قولهم، يبدو أن ماسلو نفسه كان منزعجًا من تحويل نظريته إلى أداة لزيادة الإنتاجية، إذ كان يرى أن هدفه لم يكن أبدًا ماليًا، بل إنسانيًا: البحث عن الحرية، التعبير، النموّ، والانعتاق حسب وجهة نظره.
لكن الأهم من هذا كله أن الباحثين اقترحوا شيئًا بدا لي أكثر انسجامًا مع نظرية ماسلو: اقترحوا أن السُّلَّم هو الشكل المناسب لتمثيل الحاجات حسب نظرية ماسلو، لا الهرم.
السُّلَّم…
الذي لا يضعك في طبقة مغلقة، بل يمنحك
حرية الحركة.
الذي يسمح لك بالتقدم لكن من الممكن جدا أن تتراجع وتسقط.
الذي يسمح لك بأن تقفز درجة أو درجتين أو أكثر للوصول الى الأعلى ان كنت تتمتع بالقوة الكافية.
ففي الحقيقة، إن حياة الانسان رحلة صعود وهبوط مستمرة.
فالإنسان لا يرتقي عبر نظام جامد، بل يرتقي عبر:
العقائد والقيم التي تدفعه بقوة تجعله يتمرد على الحاجات البدائية،
والحرمان الذي يقويه فيدفعه الى الأمام تارة ويضعفه أخرى فيرجع القهقرى،
والحلم الذي يدفعه بعيدا مهما كانت درجته على السُّلَّم متدنية.
وخلاصة القول من تجربتي مع هرم ماسلو، أننا اليوم نعيش في عالم تكثر فيه “الأهرام” الفكرية الجاهزة: مخططات، جداول، رسوم توضيحية، نظريات مبسّطة حدّ التشويه. وسهولة تداولها قد تجعلها تبدو حقائق نهائية، لا تحتمل السؤال. لهذا أقول لنفسي أولا وللآخرين: لا تُصدّق كل ما يُرسَم لك بالألوان الزاهية، ولا كل ما يُعاد تكراره في الكتب والمقررات والدورات التدريبية.
ارجع إلى النصوص الأصلية كلما استطعت، واقرأ عن أصحاب الفكرة بعد أن تقرأ من يختزلهم في بيانات أو صور. فبين الفكرة كما طرحت، والفكرة كما شاعت، مسافة شاسعة
…
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي
ر.خ
