إشعاعات فتاكة
خلال العقدين الماضيين، كنّا جميعًا ضحايا إشعاعات خفية، لم تترك قلبًا إلا وخدشته، ولا عقلًا إلا وأصابته بومضة من أثرها. لم تكن إشعاعات نووية ولا كهربائية، بل كانت أدهى وأمر: إنها إشعاعات "التحفيز الذاتي" و"الروحانية".
كانت المكتبات تعجّ بكتب من هذا النوع وبكل اللغات، وكان هناك إقبال محموم على اقتنائها وقراءتها. وأنا واحدة من هؤلاء، الذين خصصوا وقتا لا بأس به لقراءة بعضها، كفراشة حالمة، تحوم حول الضوء ظنا منها أنه نور الخلاص. لا أنكر أن الأمر كان مثيرًا، والأفكار كانت مغرية. وأنا بطبعي فضولية، يجذبها كل جديد، وكل ما يحمل وعدًا بالكشف عن أسرار النفس ومفاتيح السعادة. قرأت لبعض المؤلفين المشهورين في المجال: زيغ زيغلر، أنطوني روبينز، إكهارت تول، ستيفن كوفي، صلاح الراشد، إبراهيم الفقي، وغيرهم كثير. وكنت بين الفينة والأخرى أدوّن بعض الملاحظات، وأحيانًا أكتب بعض الملخصات.
لكن، شيئًا فشيئًا، بدأ طعم هذه القراءات يتغير، تمامًا كما يحدث مع طعام يبدو شهيًا في البداية، لكن ما إن تمضغه قليلًا حتى يظهر طعم آخر يجعلك تشكّ في مكوّناته، أو تحس بحموضة تؤلمك بعد هضمه. كان كل شيء يبدو غنيًا، ملهمًا، جميل التقديم. لكن كان هناك شيء ما يجعلني أُحس وكأنني أُطعَم عسلا فيه مرارة.
كانت هناك فكرة محورية تدور حولها اغلب الكتب من نوعية "أيقظ العملاق في داخلك" و "نحو القمة"، وهي أن لكل إنسان قدرات هائلة وغير مستغلة يمكنه الوصول إليها. وهي التي بإمكانها أن تحقق كل ما يحلم به في حياته. ما عليه سوى أن يتعلم الوسائل والتقنيات التي تساعده على أن يتحكم في أفكاره ومشاعره وسلوكياته: «ما نحن عليه الآن هو ما تخيلناه أولًا لأنفسنا "، "يتحدد مصيرك في اللحظات التي تتخذ فيها قراراتك".
ورغم تعدد النصائح وشكلها والتقنيات العملية المقترحة في كل كتاب قرأته، كان هذا الخطاب، رغم بريقه، يُراكم داخلي شعورًا مقلقًا. كنتُ بدأت أرى بوضوح ما يُغفلونه عمدا أو جهلا. الإشكال لم يكن في فقر ما يطرحونه من أدوات عملية من تخطيط وترتيب وبناء عادات؛ بل على العكس، كانت تلك الكتب تقترح بعض الوسائل الممتازة لمساعدة الانسان على بناء عادات يومية جيدة وتطوير العلاقات من أجل تحقيق الأهداف الشخصية والعملية. المشكلة كانت في الفلسفة التي تتبناها هذه الأطروحات والتي تُضخّم الذات إلى حد الانفجار. ثم إنها كانت جميعها تقدم في بيئة مادية محضة مبثوره عن خالق الانسان. كما أنها كانت تتجاهل هشاشة الإنسان وضعفه، وحاجته المُلحّة إلى السند من خارج حدود ذاته المادية. تلك الكتب وغيرها كثير، كانت تروّج لفكرة أن الإنسان قوي بذاته، وأن الثقة في نفسه وقدراته، هي المفتاح لكل نجاح وسعادة.
غير أن النظرة الإسلامية تقدم تصورًا مختلفًا؛ فالثقة، من منظور إسلامي، لا تكون ثقة مطلقة في النفس البشرية وقدراتها، إنما ثقة منضبطة، تقوم على الإقرار بضعف الإنسان أمام خالقه، والتسليم بأن الأمور كلها بيد الله وحده، ومجهودات الأنسان في هذه الدنيا مهما كثرت وتنوعت تبقى مقيدة بتوفيق الله عز وجل وحكمته التي لا يعلمها الا هو:
"وخلق الأنسان ضعيفا"[النساء:28].
"وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّه"[هود:88]
ولأن الإسلام يُوازن بين الأخذ بالأسباب والتسليم بالقدر، فهو يُحثنا على الصبر والاحتساب عندما تفشل الأسباب المادية في أدراك مبتغانا:
."وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة: 155]
"وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" [البقرة: 216].
كما يؤكد هذا التصور الإيماني على وجود عدو أزلي يتربص بالإنسان، ويعترض طريقه نحو النجاح والفلاح، ألا وهو إبليس. قال تعالى:
"إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [فاطر: 6].
وشيئًا فشيئًا، كانت تتضح لي المسافة الهائلة الفاصلة بين فلسفتين. فلسفة مادية تُراهن على الإنسان وحده، وفلسفة تربط الإنسان بربّه، وتُعيده إلى حجمه الحقيقي، دون وهم أو تضخيم.
***
في المقابل، كانت هناك كتب أخرى من قبيل «قوة الآن» لإكهارت تول، تتبنى أفكارا روحانية تناهض مبدأ السيطرة على الأفكار والمصير. فبينما يركز أنطوني روبينز مثلا على فكرة أن الإنسان يستطيع التحكم الكامل في مصيره من خلال قراراته اليومية وتوجيه طاقاته الكامنة، يرى إكهارت تول أن هذا السعي هو وهم الأنا ومصدر المعاناة. ويؤكد أن محاولة فرض السيطرة على مجريات الحياة يبعدنا عن وعينا الحقيقي. أفكار تول، رغم أنها في ظاهرها بريئة، وتقدم الراحة والسلام للنفس المتعبة في خضم الحياة؛ إلا أنها ليست أقل خطورة من أفكار انطوني روبينز.
رؤية تول تقوم ابتداءا على إلغاء الزمن، ونفي أهمية المستقبل والماضي، والدعوة إلى الذوبان في "الآن" كحل لمعاناة الإنسان: " الزمن ليس ثمينا على الأطلاق. لأنه مجرد وهم وسراب"، "ان اللحظة الحاضرة هي مفتاح التحرر".
ثم يرى تول أن العقل مهووس بالزمن فهو يعيش في الماضي (الذكريات والندم) أو في المستقبل (القلق والتخطيط)، مما يمنع الإنسان من التواجد في اللحظة الراهنة. وهو سبب رئيسي في الألم والمعاناة: "كل المشكلات هي وهم العقل"، وهو يعتقد أن اللحظة الراهنة، أو "الآن"، لا تُدرَك من خلال العقل بل من خلال الوعي أو ما يسمى في بعض الاعتقادات الباطنية بالذات العليا.
ومن أخطر ما يحتويه الكتاب في نظري، هو تغييب صورة الإله في طرح تول مما يجعل الروحانية التي يقدمها بلا مرجعية دينية واضحة يمكن تتبعها ونقدها من مصادرها؛ بل هي روحانية تنهل من معتقدات متعددة تعتمد على ضبابية "الوعي" و"الوجود" وتشبه كثيرًا الفلسفات الشرقية التي تحصر التحرر في الانفصال الذهني والتأمل، لا في العبودية والخضوع الى إلاه يكافئ ويعاقب. وهذا اشبه بتأليه الأنسان لذاته.
عندما كنت أقارن ما أقرأه في مثل هذه الكتب، بما تعلمته وتربيت عليه كمسلمة، كنت أجد أحيانا بعض النقط التي تتفق مع بعض الأفكار أوالأخلاق العامة، لكن كإطارعقائدي كانت هناك اختلافات جوهرية. فمثلا بالنسبة لطرح تول ايكهارت حول الزمن واللحظة الراهنة، نجد أن الزمن في الإسلام ليس مجرد وهم، بل هو أمر مقدس، أقسم الله تعالى به:
" والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" [سورة العصر]
وهو ساحة جهاد وابتلاء، والإنسان سيحاسب على ما يقدمه في لحظاته المختلفة، وعليه أن يحاسب نفسه باستمرار على ماضيه من أجل تقويم نفسه وتطهيرها، كما أن عليه أن يفكر باستمرار في مستقبله الأبدي وهي الآخرة؛ بل إن الأخرة هي أصلا البوصلة التي يجب أن توجه كل أعماله الحاضرة وهي ميزان لتقييم أعماله الماضية. هذا التشابك بين الماضي والحاضر والمستقبل هو من يحدد مصير الأنسان الأبدي. يقول عز وجل:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [سورة الحشر : 18]
"مَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا... ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ... وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" [سورة الإسراء: 18]
أما القول بأن العقل هو سبب المعاناة، هو أيضا من الأشياء التي لا تستقيم عند المسلم. فالعقل أساس التكليف ولا تستقيم الحياة الا به. أكيد أن العقل أيضا له زلاته وله شطحاته كأي وسيلة مكننا الله منها في الدنيا، لكن العقل يبقى هي الوسيلة التي تمكننا من أن نقيس الأمور ونقيمها، في إطار تشريعات سنها الله لنا لكيلا نضل. "أَفَلَا تَعْقِلُونَ" تكررت كثيرًا في القرآن، مثلا في: سورة البقرة 44، سورة ال عمران 65، سورة الأنبياء 10، وغيرها.
كما أن الشعور بالحزن والألم والمعاناة في الدنيا هو شيء عادي بالنسبة للمسلم وهي من الابتلاء الدنيوي:
"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ" [سورة البلد: 4]
"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " [سورة البقرة: 155]
***
في النهاية، وإن اختلفت الكتب والعبارات، وتباينت المسالك، فإنها تلتقي عند نقطة جوهرية: تضخيم الذات البشرية وتعظيم قدراتها بمعزل عن خالقها. من جهة، أنطوني روبينز في خطابه التحفيزي يخاطب "العملاق الكامن" في داخل الإنسان، ويحثه على الوثوق بقوته الذاتية لتحقيق المجد في عالم مادي شرس، بينما إيكهارت تول، في طرحه الروحاني، يركز على أهمية الوصول الى "الوعي" او "الذات العليا" ويغلفها بغلاف مغر من التأمل والسكينة، لكنه في جوهره يُؤلّه الإنسان من جهة أخرى، ويجعله مصدر النور والهداية.
أما في الاسلام، فالسكينة والحكمة والتوفيق تُستمد من التوجّه إلى الله وطلب العون منه، ومن استشعار فقر النفس إلى هداية ربانية تسدد خطواتها، وتقوم اعوجاجها، وذلك مع الأخذ بالأسباب المادية، إذ نحن مأمورون بالسعي والعمل، وبذل الجهد فيما استخلفنا فيه.
وشتّان بين من يرى في نفسه إلهاً صغيرًا يتوهم الاكتفاء، ومن يرى فيها عبدًا ضعيفًا يتقوى بربٍ عظيم. يقول تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" [فاطر: 15].
"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ" [النور: 35]
"وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا"[ الإنسان: 30]
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي

