صفحة في رواية قبل الأوان
شيفرة
في يومٍ شتاء ممطرٍ، كنتُ في الحافلة المتجهة من مدريد إلى برشلونة لزيارة عائلية، أجلسُ في المقعد المحاذي للنافذة، أراقبُ قطرات المطرِ تتسابقُ وتتشابك على الزجاجِ، ترسم خطوطًا متقاطعة، ثم تندمجُ معًا، وكأنّها تكتب رسالة مشفرة ثم تمسحها...
الجوُّ باردٌ بالخارج، لكنّ الحافلةَ دافئة، تمتزج فيها أحاديث المسافرين، بصوتِ المحركاتِ، وبالصمتِ الذي كان يجمعني برفيقِ المقعد...
كان رجلاً ستينيًا على ما يبدو، تكسو وجهه التجاعيدُ اللطيفة وكأنها ترسم دروب الحياة الطويلة التي قطعها، لتحكي عن سنواتٍ حافلة لا تستطيع الكلمات والقصص روايتها.
بدا عليه الفضولُ وهو يلتفتُ إليّ بين الحينِ والآخر، ثم يعيدُ نظره إلى الأمام، كما لو كان يبحثُ عن الكلماتِ المناسبة ليفتتح بها حديثًا.
ثم، أخيرًا، استدارَ نحوي وقال بصوتٍ رخيم:
"¿Hablas español?"
"هل تتحدثين الإسبانية؟"
تردّدتُ للحظة، ثم أجبت بصوت هادئ متردد:
"Un poco... "
"قليلاً"
هزّ رأسه بإعجابٍ مبالغ فيه قليلاً، ثم تابع بنبرة مليئة بالبساطة:
"Tu velo es muy bonito "
" حجابُك جميل "
تملّكني ارتباكٌ خفيف، فابتسمتُ شاكرة لكلماتهِ الرقيقة.
لم أدرِ إن كان يبحث عن مجاملة أو حديث عابر لكسر الصمت، لكنّه لم يتركني أتساءل طويلاً.
قال بصوتٍ بدا أوضح من ذي قبل:
"هل لي أن أسألكِ... لماذا ترتدينه؟ أقصد... هل هو اختيارك؟ أم أن أحدًا ما فرضه عليك؟ زوجك؟ والدك؟"
أخذتُ نفسًا عميقًا، وعيني تتبعان الخطوط والرموز المتشابكة على زجاج النافذة المبتلّة. ثم التفتُّ إليه بابتسامة هادئة وقلت:
"لا أحد يجبرني عليه. أرتديه لأنه يشبهني... لأنه جزء من هويتي."
ارتسم على وجهه اهتمام صادق، كأنّ جوابي فتح له معنى لم يخطر بباله من قبل. وبعد لحظة صمت أضفت:
"كثيرون يظنّون بأنه ستار يخفيني عن العالم، ويقيّد حريتي، ويحجب عقلي. لكنني أراه إعلانًا بصريًا عن حريةٍ أعمق من حرية الجسد؛ حريةٍ تنقذني من أن أُختزل في مادّة بلا روح. إنه تأكيدُ إرادة، لا خضوع. اختيارٌ عن وعي، لا عن إكراه."
نظر إليّ فجأة، ثم أومأ برأسه ببطء وقال بصوت خافت:
"لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة من قبل."
ابتسمتُ، وعدتُ أتابع المطر وهو يواصل هطوله من زجاج النافذة...
في تلك اللحظة، شعرت أن ما يلف رأسي لم يكن مجرد قطعة قماش، بل معنى يتجاوز باقي القطع التي كانت في عمومها تشبه الى حد كبير ما يرتديه باقي المسافرين في الحافلة...
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها عبر الذكاء الأصطناعي
