الأحد، 20 يوليو 2025

  وهم الحكمة

خلال رحلاتي العجيبة مع الروايات، قرأت رواية "الخيميائي" للكاتب البرازيلي باولو كويلو، "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق، و"طعام، صلاة، حب" للكاتبة الأمريكية إليزابيث جيلبرت. ثلاث روايات في ظاهرها بحث عن الذات، وفي باطنها صراع عميق معها. روايات تُقدّم للقارئ في قالب شاعري وروحاني عميق على أنها رحلات نحو "اليقظة" و "الحب" و"السلام" و"تحقيق الذات".  هذه الكتب تشبه حلوى الكريمة اللذيذة. شكلها مغري ومذاقها شهي، لكنها تفتقر إلى القيمة، بل هي سُم مغلف بسكر. في هذه القصص، نجد مشاهد مؤثرة، حكمًا متناثرة، لحظات صادقة. لكنها أحيانا تكون مضللة وتعمي البصيرة. وللأمانة، انا هنا لا أتحدث عن الجانب الأدبي والأسلوب السردي الذي لا أملك الوسائل المناسبة لنقده بمهنية. فمن هذه الناحية، فكل ما يمكن ان أقوله كقارئة هاوية، هو ان القصص الثلاث تملك كمية كبيرة من الإثارة وطريقة سرد جذابة تجعلك متعلقا بمجريات الأحداث حتى النهاية.

أنا لا أنكر أنني استمتعت قليلا بقراءتها، وأنها رمت احجارا في بحيرة أفكاري، كما قالت اليف شافاك فلم تعد كما كانت من قبل... كما لا أنكر أنها لمست ذلك الجانب الرومانسي في والذي يحب السكون والخيال والتأمل... لكن وانا أقرأ مثل هذه الروايات، كنت أفاجأ مرة تلو الأخرى بأفكار غريبة عن ثقافتي الدينية والمجتمعية. وكنت أصاب أحيانا بخيبة أمل من سطحية الأفكار وكيفية تناولها. وما ان أصل الى النهاية، حتى يسقط الوهم ليكشف أن ما تقدمه هذه الروايات ليس فقط خيالًا، بل تشويش على الفطرة، وليس رقة، بل تلويث ناعم للعقيدة.

فلنأخذ على سبيل المثال رواية "طعام، صلاة، حب" وهي قصة حقيقية تخص الكاتبة نفسها، فالقصة تجسد رحلتها من المعاناة الى السلام الداخلي كما تدعي. حكاية امرأة تهرب من حياتها التي فقدت فيها شغفها وروحها لتذهب في مغامرة مثيرة للبحث عنهما واستعادتهما.

فمن خلال رحلتها إلى إيطاليا، سعت الى استعادة علاقتها بالجسد من خلال الطعام، فانغمست في ملذّات المطبخ الإيطالي كخطوة أولى نحو التحرر من الألم. ثم انتقلت إلى الهند، حيث سعت إلى تهدئة الروح من خلال التأمل والانعزال، باحثة عن الله في ممارسات روحية يغلب عليها الطابع الذاتي الباطني، وتكاد تخلو من أي التزام بأوامر أو نواهٍ. وأخيرًا، في إندونيسيا، وجدت الحب متجسدا في رجل منحها شعورًا بالأمان العاطفي الذي افتقدته.

لكن هل ما وجدته غيلبرت حقًا هو سلام داخلي، أم مجرّد اجازة مؤقتة استراحت فيها من الألم؟ لقد قرأت القصة منذ سنوات خلت، ومازلت أتساءل هل فعلا استعادت روحها الضائعة؟ هل وجدت السلام الداخلي؟ أم أنها كانت متوهمة وباعت الوهم لقرائها. فلقد اختزلت السلام الداخلي في اشباع الجسد بالأكل اللذيذ والحب الرومانسي، واشباع الروح بالتأمل...وهذا لعمري وهم لا يشبع ولا يسمن من جوع...

وهو في جوهره لا يخرج عن كونه إعادة إنتاج لفلسفات روحية عصرية لا تمنح الإنسان إلا سرابًا يظنه خلاصًا، لكنه لا يلبث أن يتبدد مع أول أزمة وجودية جديدة.

وأعتقد أن أخطر ما في الرواية هو إعادة تعريف الإله والإيمان بطريقة ذاتية جدًا تنكر كل ما هو خارج عن الذات، وتعيد تشكيل المفاهيم الكبرى (الله، السعادة، التديّن) على هوى الإنسان. تقول الكاتبة:

"God dwells within you as you"

 يعني: " "الله في داخلك، وهو يتجلّى من خلالك".

وهذه الكلمات تخفي وراءها نزعة ذاتية جدا، تجعل الله مجرد إحساس داخلي، بدلا من أن يكون ربا معبودا بأوامر ونواه.


نفس القصة تتكرر تقريبا في رواية " قواعد العشق الأربعون"، فهي تحكي عن امرأة تُدعى إيلا، فقدت بريقها وسط حياة رتيبة كئيبة، حيث باتت أيّامها تمرّ بلا معنى، غارقة في الروتين والأسئلة الصامتة. لكنها حين بدأت قراءة رواية عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، تغيّرت حياتها شيئًا فشيئًا. فأيقظت فيها رغبة دفينة في التغيير والانعتاق. حتى قررت أن تخرج من قوقعتها وتواجه الحياة بشجاعة، مدفوعة بنار العشق والمغامرة.

 في هذه الرواية، ستجد نفسك تقرأ ما يشبه أشعارا صوفية ممزوجة بالحب. الرواية تعرض حياة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي، وتسرد ما يُفترض أنه قواعده "الروحانية"، وهي في حقيقتها توليف حديث لأفكار صوفية.  ليست الصوفية التقليدية المعروفة بتركيزها على الزهد، والمحبة لله، والعبودية له ضمن حدود الشريعة. بل هي صوفية مُعالجة بروح أدبية وفلسفية معاصرة تعيد تقديم مفاهيم مثل "العشق الإلهي" و"البحث عن الذات" بعبارات وإن بدت جذابة، تعبّر عن تماهٍ بين الإنسان والوجود الكلي، بل تكسر الحدود بين الذات والآخر والعبد وربه. وهي من صميم فلسفة وحدة الوجود.  

أما في" الخيميائي" لباولو كويلو، فستجد الراعي سانتياغو يأخذك معه في رحلة مثيرة إلى "روح العالم". طريق يبدو مشرقًا وواعدا بالكنوز، لكنه يبتعد بك، دون أن تشعر، عن النور الذي يهديك إلى توحيد الخالق، ليسحرك بفكرة وحدة الوجود. حيث يعبّر "روح العالم" عن وحدة روحية تربط جميع عناصر الطبيعة ببعضها، من البشر إلى رمال الصحراء. 

فما يفعله الخيميائي عندما يُنقّي المعادن ليحوّلها إلى ذهب، هو ما يفعله سانتياغو الذي يُنقّي نفسه ليُصبح قادراً على تحقيق "أسطورته الشخصية". ووفقاً لما تطرحه الرواية، فإن روح العالم قد خلقت "أسطورة شخصية"، لكل شيء، سواء أكان سانتياغو أم قطعة من الحديد. ولكي يحقق كل كائن أسطورته، يجب عليه أن يتعلم كيف يتواصل مع روح العالم، التي تقوم بتطهيره. وهذا التطهير المستمر يؤدي في النهاية إلى الكمال. إن هذه الفكرة هدفها أن تُظهر أن جميع عناصر الطبيعة ما هي إلا تجليات مختلفة لروح واحدة. 

في كل رواياته التي قرأت مثلا "ساحرة بورتوبيللو" أو "أليف"، يعبر باولو كويلو عن نفس المعنى. وهو أن كل شيء في الوجود يشكّل جزءًا من قوة واحدة. هذه القوة يُشير إليها بأسماء متعددة في كتبه، مثل: "الكون"، "الله"، "الإلهة"، وغيرها. وحسب هذا الطرح، فانه عبر التوافق الروحي مع "الكون"، يتمكّن الإنسان من بلوغ مستوى أعلى من معرفة الذات، ويقوم "الكون" بالمقابل بتحقيق رغباته بسخاء. 

***

ونحن نقرأ هذه الكتب نجد التشابه الكبير بين أفكارها وتلك التي طرحتها بعض الكتب الأكثر مبيعًا في كتب التنمية الذاتية الكلاسيكية أو الروحانية مثل السر أو قوة الأن أو غيرها. وهنا يبرز السؤال المحير: لماذا تحقق هذه الكتب والروايات رغم هشاشتها من حيث المعنى، هذا النجاح الجماهيري الهائل؟ هل السبب ببساطة أن الناس أغبياء؟

الأمور ليست بهذه البساطة. بل أعتقد أن كثيرًا من الناس، لا سيما أولئك الذين يمتلكون طموحا ورغبة قوية في تحسين حياتهم، خلال بحثهم عن مراجع أو كتب يتعلمون منها بعض التقنيات والوسائل التي تساعدهم على تحسين حياتهم وعملهم، يتعثرون في طريقهم بكم هائل من هاته الكتب التي تخاطب هذه الحاجات فيهم. كما أن هذه النوعية من الكتب والروايات تكون كالبلسم لبعض الناس المرهقة في عجلة الحياة. فبين سطورها تجد نُعومة ورقّة تربت على القلوب الحائرة وتمسح عنها بحنان أحزانها الصغيرة ولو للحظات قليلة. فهي تمنحهم عزاءً مؤقتا لقلقهم ومخدرا يجعلهم يشعرون بأنهم قادرين على التحكم في مجريات حياتهم.

غير أن المسلم الذي تربى على أبجديات الإيمان، وتشرب معاني التوحيد، لا يلبث أن يلمس هشاشة هذه المفاهيم، ويكتشف فراغها القيمي والروحي. فهي تقدم شعارات براقة، لكنها بلا جذور، تلمع في ظاهرها وتنهار عند أول اختبار. فالمفاهيم التي تروجها تُغيب الآخرة، وتُسقِط دور الله عز وجل من معادلة الحياة، وتُقدّم الإنسان ككائن قادر على خلق مصيره بيده وحده، وكأن الكون يُدار بإرادته هو، لا بإرادة خالقه. الأخلاق فيها لا تستند إلى وحي أو مسؤولية دينية، بل إلى مبدأ ذاتي مائع: "كن طيبًا لتُكافأ"،"أحسن ليحسن إليك"، "مارس الامتنان لمزيد من الثراء"...

أما الحب في مطلقه سواء بين العبد وربه او بين الانسان وبني جنسه، فهو كما قالت اليف شافاك "الحب هو كما هو" ذاتي خالٍ تماما من أي ضوابط وشرائع. والنجاح في الدنيا يصور كغاية بحد ذاته، وليس وسيلة لسعادة ابدية في حياة أخرى. الأخطر من ذلك أن الإنسان فيها يُرفَع إلى مقام أشبه بالألوهية، إذ يُقال له إنه قادر على "جذب" كل ما يشاء إلى حياته بمجرد التفكير، وكأن الكون عبدٌ لرغباته، ولا يسير بحكمة ربانية. وهنا تتجلى خطورة هذه الروايات، خاصة حين تُقدَّم في ثوب روحاني خادع، بينما هي في حقيقتها شرك ناعم وكفر مقنع، وكل شيء فيها مائع: أخلاق بلا دين، حب بلا شريعة، سعي بلا حساب، وكون كريم معطاء ينفذ أوامرنا... 

ر.خ

 

ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها عبر الذكاء الأصطناعي.