صفحة في رواية قبل الأوان
يوم من العزلة
فتحت باب المكتب بعصبية. دخلت تجر نفسها ببطء ثم ألقت بجسدها الجريح على الكرسي أمام الشاشة. كان الدم يتسرب كالنهر الجارف. يزحف ببطء عبر البلاط، يتسرب من تحت باب المكتب، ويجري في الممرات. حاولت طباعة بعض الأوراق لاجتماع مفاجئ، لكن السيل الجارف زحف على الطابعة التي راحت تُخرج أوراقًا بحبر أحمر. غمر الدم كل ركن من أركان البناية، تمامًا كما فعل في بلدة "ماكوندو" حين تسلّل من منزل إلى أخر ليكشف عن موت لا يجرؤ أحد على تجاهله. ومع ذلك، لم يلاحظه أحد؛ لم يره سواها. أجنّت يا ترى؟
فكرت للحظة: " أهذا ما تفعله الروايات بالعقل؟ آه يا غابرييل غارسيا ماركيز، ماذا فعلت بي بعد مائة عام من العزلة؟"
دخلت قاعة الاجتماعات متأخرة، رافعةً تنورتها عن الأرض حتى لا تتلطخ بالدم الذي تبعها إلى هنا أيضًا. زملاؤها سبقوها، أحدهم كان يتحدث عن المشروع. اختارت كرسيًا جانبياً كأنها تريد أن تنأى بنفسها. فجأة تحوّل جسدها إلى صخرة باردة تشدها نحو الأرض.
نهض أحد الزملاء من مقعده واضعًا يده على رأسه، يشكو من صداع، وطلب دقيقة ليأخذ قرصًا مسكّنًا. ابتسمت بسخرية ورددت في نفسها: صداع؟ لو علموا بالجدران المتصدعة الغارقة في الدم ، وبالطبول التي تُعلن في أحشائها عن حرب وشيكة ستلتهم الأخضر واليابس، لما تجرأ أحد على التذمّر من صداع.
تمدد الزمن داخل القاعة؛ ساعة اجتماع بدت كالدهر. كانت هناك أيضا غيمة سوداء تتكون فجأة فتثقل صدرها، ثم تنقشع على حين غرة فتتنفس الصعداء. حين جاء دورها في الكلام، اندفعت الكلمات من فمها اندفاعا، ومع كل كلمة كان لسانها ينزف كأنها تتدفق من جرح مفتوح. صار المكان ساحة جريمة صباحية. عندما انتهت من مداخلتها المشحونة، عمّ الصمت بضع لحظات. بعدها بدأت المداخلات تتوالى، والملاحظات والاقتراحات. لم يلحظ أحد ما كان يحدث. كانت وحدها تعرف السر.
وأخيرا، انتهى الاجتماع. تنهدت بعمق، استجمعت ما تبقى من قواها، ثم نهضت من الكرسي بتثاقل. قبل أن تخرج من القاعة، استدارت وحيت الجميع. كانوا لا يزالون يتبادلون أطراف الحديث وهم واقفين بكل خشوع. عند خروجها من باب القاعة، مرت بذهنها خاطرة طريفة جعلتها تقاوم ابتسامة ماكرة: "لعل سينيكا نسي أن يذكر بأن ميديا كانت تغرق في مثل هذا الطوفان حين قامت بمجزرتها الشهيرة".
...
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها عبر الذكاء الاصطناعي.