الإيجابية السامة
"أضئ شمعة بدلًا من أن تلعن الظلام". عبارة لطالما أحببتها وما زلت أحبها. لكن، مع مرور الوقت، بدأت أشعر أن هذه العبارة، على جمالها، قد تتحول أحيانًا من دعوة صادقة للأمل، إلى سلوك جافٍّ يرفض حتى مجرد الحديث عن الظلام وقسوته. بل ووجدت نفسي، من غير قصد، بدلًا من أن أضيء شمعة صغيرة لمن يشكو ويتألم، أشعل مصباحًا قوي الإضاءة في وجهه؛ مصباحا يعميه بدل أن ينير له الطريق. وبدأت بعض المشاهد تتكرر أمامي: مريض يئن يحتاج إلى من يصغي إليه، زميل يشتكي من ظروف العمل، قريب يبحث عن صدر حان يحكي له عن بعض معاناته في الحياة، فإذا بالمستمع يغرقه بالخطب الجوفاء، والنصائح السريعة، والتحليلات المكوكية. فيتحول المجلس إلى ساحة معركة؛ هذا يصرخ من الألم باحثًا عن أذن تسمع وقلب يرحم، أو لسان لين يسهل عليه صعوبة الموقف، وذاك يملّ من شكواه، أو يزدري ضعفه، فيردّ عليه بلسان قاسٍ يضاعف ألمه. وهكذا تضيع لحظة كان يمكن أن تكون فرصة للنصيحة المخلصة، فإذا بها تُثقل بالجدل والعصبية، ويغيب عنها الدفء الذي يخفف عن النفس همومها.
مؤخرا، وأنا أقرأ بعض المقالات التي تنتقد التنمية الذاتية في شكلها الحالي من الناحية النفسية، بدأ يتكرر أمامي مصطلح جديد: "الإيجابية السامة" أو "الإيجابية السلبية ".
في مقال بعنوان "الجانب المظلم للإيجابية: فهم الإيجابية السامة في الثقافة الحديثة" والمنشور في مجلة الطب النفسي والصحة السلوكية، عدد شتنبر 2024، سلطت الدكتورة زوي وايت، الضوء على مفهوم "الإيجابية" الرائج في الثقافة الحديثة. عرفت مفهوم الإيجابية السامة على أنها تسعى لقمع المشاعر السلبية، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج نفسية سلبية، منها إضعاف القدرة على التكيّف والنمو العاطفي بخلاف الإيجابية الصحية، التي تعترف بجميع المشاعر وتُتيح التعبير عنها.
كما أكدت الدكتورة زوي وايت أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا كبيرًا في نشر هذه الظاهرة. إذ أن المحتوى المنتشر، مثل الوسوم #PositiveVibesOnly، يشجع على فكرة اظهار الإيجابية في كل المواقف مما يلغي الحاجة الحقيقية للاعتراف بالمشاعر السلبية. وحسب الكاتبة، غالبًا ما تظهر "الإيجابية السامة " على شكل عبارات مريحة لكنها تُهمل المشاعر السلبية مثل: "كن إيجابيا "، "انظر للنصف الممتلئ.". هذه العبارات قد تبدو مشجعة، لكنها قد تُشعر البعض بالعزلة أو النقص، لأنها تنكر مشاعرهم المؤلمة وقد تؤذيهم نفسيا. حيث يعاني الأفراد من ضيق نفسي عندما تتضارب لديهم معتقدات أو مشاعر متناقضة ويضغطون على أنفسهم لإظهار الفرح والرضا. مما يؤدي إلى قمع المشاعر، وهي آلية دفاعية يُثبط فيها التعبير عن المشاعر السلبية عمدًا. وقد ربطت الأبحاث هذا القمع بزيادة التوتر، ونقص المرونة النفسية، وضعف العلاقات الاجتماعية، بل وظهور اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، وحتى أمراض جسدية ذات منشأ نفسي.
"الإيجابية السامة" في بيئات العمل:
حسب المقال، في بعض أماكن العمل، تنتشر ثقافة "التفاؤل الإجباري"، حيث يُتوقع من الموظفين الحفاظ على موقف إيجابي باستمرار، حتى في ظل التحديات والضغوط. مما قد يؤدي إلى قمع المشاعر الحقيقية، وزيادة مستويات التوتر، وحدوث احتراق نفسي burnout . واستشهدت ببعض الأبحاث التي أظهرت أن الإفراط في الإيجابية في بيئة العمل قد يُضعف الرضا الوظيفي والصحة النفسية للعاملين. وأن التركيز غير المتوازن على الإيجابية قد يمنع الناس أيضا من مواجهة مشاكلهم الفعلية والتعامل معها.
"الإيجابية السامة" في صناعة التنمية الذاتية:
كما جاء في المقال أن بعض كتب المساعدة الذاتية والخطب التحفيزية تروج لفكرة مبسطة: "فكر بإيجابية وسيتغير كل شيء!" هذا التوجه يُغفل الجوانب المعقدة للعاطفة والواقع، ويُشجع على كبت المشاعر السلبية. مثل هذه الرسائل تجعل الناس يشعرون بأن الشعور بالحزن أو الفشل هو علامة ضعف، مما يردعهم عن طلب المساعدة أو التعبير عن ألمهم. كما أن الجمع بين هذه الخطابات الإيجابية، وضغط الإيجابية في بيئة العمل، قد يجعل الموظفين يخافون من التعبير عن قلقهم أو مشاكلهم. ليس الموظفون فقط، بل حتى المديرون والقادة يشعرون بالضغط لإظهار صورة متفائلة دائمًا.
وفي النهاية قدمت الكاتبة بعض المقترحات لمواجهة الإيجابية السامة، ومن بينها: الاعتراف بالمشاعرعوض قمعها، وعدم الشعور بالحرج من الإحساس بالضعف، والتعبير عنه، واعتماد سياسة انتقائية للمواد الإعلامية التي تتحدث عن الإيجابية؛ فلا يستهلك المرء كل ما يقترح عليه من مواد جاهزة على مواقع التواصل، والتحري من المصدر ومن الخلفية العلمية والثقافية لمن يقدمونها، وتجريب الانفصال الرقمي لوقت طويل.
بحثت عن معنى الإيجابية في الإسلام في بعض المراجع فلم أجده يتحدث بصورة حصرية عن عدم الشكوى أو اظهار الضعف. بل وجدت أن استعمال كلمة إيجابية في السياق الاسلامي مرادفة للحركة، والعمل وأخذ زمام المبادرة والصبر على المكاره. وضدها السلبية، وهي لا تعني بالأساس اظهار الألم او الحزن او حتى الاحساس بالضعف والإنهاك؛ بل تعني اللامبالاة، والكسل، والتخاذل عن أداء الواجبات، والتهاون فيما وكل الينا من مسؤوليات، واختلاق الأعذار عبر لوم الاخرين أو الظروف. ثم بحثت بعدها عن حكم الشكوى والتظلم، واظهار الضعف والحزن والإحباط. وفيما يلي خلاصة عامة ومختصرة جدا:
· الإسلام لا ينهى عن الشكوى، وإظهار الضعف والحزن بين يدي الله بل هو من باب القربات اليه ومجلبة لاستجابة الدعاء. كما استجاب الله لِمَن سبقنا من الأنبياء والصحابة والأخيار؛ فهذا أيوب - عليه السلام - يشكو حاله إلى ربه، فيقول: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]؛ فسَمِع الله شكواه، وكشف بلواه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 84].
وهذه امرأةٌ ضعيفةٌ تشكو زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمع الله شكواها، ويحل مشكلتها بآيات تتلى إلى يوم القيامة: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: 1] الآيات.
· إظهار مشاعر الحزن والألم والتحدث بها أمام الناس أمر طبيعي، فقد بكى النبي ﷺ لفقد أحبته، وحزن عند وفاة ابنه إبراهيم، وقال: ( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) متفق عليه.
· لا مانع من بث الشكوى والبوح بالحاجة إلى الاخرين لطلب المساعدة وذلك في الأمور الدنيوية، أو الاستشارة أو التظلم.
· كثرة الشكوى للناس باستمرار ودون حاجة ملحة مكروهة، وتعد من قلة الصبر، وتقلل من أجر صاحبها، وقد تصل إلى التحريم إن اقترن بها تسخط من قدر الله.
· الإيجابية في الإسلام مرتبطة بالمسؤولية، أي أن المسلم الإيجابي هو من يسعى لإعمار الأرض، وإصلاح نفسه ومجتمعه، ولا يتوقف عند حدود الألم أو الإحباط بل يتجاوزه بالعمل والدعاء والصبر.
· السلبية المرفوضة شرعًا ليست مجرد لحظات حزن أو تعب، بل هي التحول إلى شخص عاجز، لا يتحمل مسؤولياته، ويتخذ من ضعفه أو ظروفه شماعة للتقصير.
· المطلوب الوسطية بين القسوة على النفس والدلال الزائد لها، وذلك بالاعتراف بالمشاعر الإنسانية دون إنكارها، ثم تحويلها إلى دافع للعمل لا إلى ذريعة للانكسار.
لكن الإشكال يظهر في كيفية تعاملنا مع المشتكي؛ فكثيرًا ما يقع الناس في فخّ ما يُسمّى اليوم بـ"الإيجابية السامة"، حين يُنكرون على المتألم مشاعره، ويطالبونه أن يتجاوز ضعفه بسرعة، أو يفرضون عليه أن يظهر القوة والسعادة بعبارات سطحية من غير فهم حقيقي لما يمر به ويشعر به. بل أحيانًا يتجاوز الأمر ذلك إلى الإحساس بالتعالي، فيبدأ المستمع بتوجيه العتاب والنصائح الجاهزة وكأنه يريد أن يُثبت تفوقه. وهذا ظلم مضاعف، لأن المشتكي لا يبوح بألمه ليُدان أو يُحاكم، وإنما لأنه يبحث عن قلب رحيم يُشعره بالأمان، وأذن صاغية تتفهم معاناته، ولسان يواسيه بدعاء صادق أو كلمات حانية، ثم نصيحة حكيمة ومخلصة تفتح له طريقا للأمل. فالإيجابية هنا من قبل المستمع تتجلى في الإنصات بتواضع. وللأمانة، فان الامر ليس سهلا دائما؛ لأنه يتطلب صبرا على الشكوى خصوصا عند تكررها. ولهذا علينا أن نستحضرأن مساندة بعضنا البعض في لحظات الضعف ولو بالاستماع الجيد والكلمة الطيبة، واجب علينا ومن باب الأخوة الصادقة، وسنؤجر عليها بإذن الله، وكل قدر استطاعته.
وفي المقابل، الإيجابية الحقة التي يجب أن نسعى لها عند التعرض للابتلاء، ليست قناعًا زائفًا يرسم ابتسامة باردة، نرتديه طوال الوقت ليُخفي الحزن والألم؛ وإنما هو شعور بالمسؤولية يستمد قوته من الايمان بالله عز وجل. يدفع المسلم للنهوض برسالته رغم ما يعترضه من ألم أو ابتلاء. فالمشاعر من حزن وضعف وانكسار هي جزء من طبيعة البشرعندما يتعرض للظلم، أو القسوة، أو الفشل. كما لا يجب أن نختصر تجاربنا الإنسانية المؤلمة في شعارات براقة لا تصل الى عمق ما تركته فينا من جروح وندوب؛ بل الإيجابية تكمن في أن نقبل الألم دون أن نسمح له بخنقنا، أن نعترف أن ما نتعرض له ابتلاء ليس سهلا ويتطلب الصبر، وربما يتطلب وقتا وجهدا حتى نتجاوزه، وأن نثق بأن مشاعر الحزن والتعب لا تدوم مهما طالت. والأهم من ذلك كله علينا أن نعي أن الابتلاء محطة لا بد أن نمر بها، وأن أول من نشكو إليه، وأول من نلجأ إليه إذا نزلت بنا مصيبة هو الله تعالى، وأن رحمته واسعة. وعلينا أن ننتبه جيدا الى أن كثرة الشكوى المتكررة للناس دون حاجة ملحة قد تقلل من أجرنا أو تبطله إن اقترن بها تسخط من قدر الله.
ر.خ
ملاحظة: الصور المعروضة تم توليدها عبر الذكاء الاصطناعي.

